أوراق بَنَمَا تنقلنا إلى الجزر العذراء

21 ابريل 2016
+ الخط -
أُتابع، في بعض القنوات التلفزية، البرامج التي تُعْنَى بما أصبح يُعْرَف بتلفزة الواقع، حيث تَتِمُّ العناية بظواهر ومعطياتٍ لها صلة مُحَدَّدَة بما يجري في الواقع. وما عَزَّزَ وَيُعَزِّزُ حرصي المُتواصل على متابعة هذه البرامج، التَّفَاوُت الذي تسعى إلى إقامته بين الوقائع والأحداث الفعلية والمادة المُصَوَّرَة، حيث تحضر بصمات المخرج، ليصبح المُتَفَرِّج أمام عملٍ، يتداخل فيه الواقعي بالمتخيَّل بكثير من التركيب والتَّقَاطُع.
تذكَّرت بعض هذه البرامج، وأنا أتابع الأخبار التي تلاحقت في موضوع محتويات الأوراق التي أصدرتها شركة موساك فرنسيكا للخدمات القانونية في بَنَمَا، حيث كشفت أخبار التسريبات جوانب من الفساد الضريبي والمالي في عالمنا. وأدركت، وأنا أُرَاجِع بعض معطيات هذه الأوراق، أن الأمر يشير إلى وقائع تُعَدُّ اليوم جزءاً من بنية الفساد القائم في النظام الاقتصادي العالمي.
برز في أوراق بَنَمَا التي عمل على نشرها أحد العملاء السابقين لوكالة الأمن الأميركي، وعَمَّمَها الاتحاد الدولي لصحافة التحقيق، بتواطؤ مع صحف دولية عديدة، ما يشير إلى فضائح مالية وضريبية عديدة، مرتبطة بقيادات سياسية ورجال أعمال، ومجموعة من الشركات العملاقة والمقاولات العابرة للقارات.
لا يتعلق الأمر في معطيات الأوراق المُسَرَّبَة والمُعَمَّمَة إعلامياً بظواهر فردية معزولة، قدر ما يتعلق بِمَافْيَا مُعَوْلَمَة وشبكات نفوذ تقوم بتهريب الأموال المنهوبة إلى ملاذاتٍ آمنةٍ ومعفاة من الضرائب. وقد أدركنا، ونحن نتابع ما كُتِب عن أوراق بَنَمَا، أننا أمام معطياتٍ مُتَدَاوَلَةٍ كثيرة في الأبحاث والتقارير المهتمة برصد الفساد المالي في النظام الرأسمالي، بسبب غياب الضوابط القانونية الرامية إلى إقرار العدالة والإنصاف، ولأنه لا يُمكن الفصل بين تهريب الأموال والتَّهرُّب الضريبي ومختلف مظاهر الفساد المالي السائدة في العالم.
تكشف أوراق بَنَمَا الكيفيات التي تَتِمُّ بها عمليات دمج الأموال في النظام المالي العالمي، حيث تتجه الخطوات الأولى إلى احتضان الأموال المنهوبة والمُهَرّبَة، ثم تبييضها وترتيب سُبُل دمجها في دورة النظام المالي داخل أنظمة الاقتصاد الليبرالي المُعَوْلَم. وهنا، تصبح الوسائط الناقلة والفاضحة جزءاً من آلية الفساد. لكن، كيف تنشأ هذه الوسائط؟ وكيف تمارس أنشطتها مع رجالات المال والأعمال والشركات، ثم تخبرنا، لاحقاً، بما أنجزت؟ هل تقوم بذلك لتقديم طُعُوم مُغْرِية لمن يهمه أمر الواحات المعفاة من الضرائب؟
تُوصِي معطيات الأوراق المُعَمَّمَة، وقد تناقلتها وسائل الإعلام المرئي والمكتوب، أن المسألة
تتعلق بعمليات نقل أموال، أو انتقالها عن طريق شركات شبكات، حيث تجري عمليات تبييضها ونزع قذارتها، لتصبح، بعد ذلك، شبيهةً بباقي الأموال في البورصات المعولمة.
ينفتح موضوع التسريبات في العمق على تهريب الأموال وتجارة المخدّرات، كما ينفتح على مسألة تمويل الإرهاب والقضايا المرتبطة بموضوع شراء الذِّمَم، في المآزق القائمة اليوم في مناطق عديدة. ولعلنا لا نبالغ عندما نقول إنها ترتبط بقضايا كثيرة مشتعلة في عالمنا.
يمكن أن تُقرأَ الظاهرة في سياقات أزمة النظام المالي العالمي، حيث تغيب الشفافية والمساءلة، وتكون هيئات الرقابة المالية ضعيفةً، أو تابعة لرؤوس السلطة ومُدَبِّرِي دوائر الاقتصاد والمال في العالم. لكن الجميل في حكاية التسريبات، هو ما لا نعرفه عن أسباب حصولها اليوم والآن، وبالشكل الذي ظهرت به، والرواية التي قُدِّمَت بها. فهل يتعلق الأمر بخطوةٍ أولى، تليها خطوات أخرى، تُقَدِّم فضائح غير معروفة أم ماذا؟
تمتلك أوراق بَنَمَا مواصفاتٍ قانونية ومالية مُحَدَّدَة، وترتبط بمعاملاتٍ مؤسسيةٍ وبضائع مُعلنة، وكثير من هذه المعاملات يخترق أَنْظِمَةً قانونية، ويُساهم في توسيع شبكاتٍ تُتَاجِر في بضائع تَدِرُّ أرباحاً لا حدود لها، وتُنجز مهامّ ترتبط بقضايا مثيرة للرأي العام، يتعلق الأمر، على سبيل المثال، بتجارة السلاح والمتاجرة بالبشر، وكذا تجارة المخدرات. ونستطيع القول إن المستور الذي تُعْلِن أوراق بَنَمَا أنها تكشفه وتفضح القائمين به وعليه، نجد له، في كل المجتمعات، أمثلة في المحاكم، حيث يُعَدُّ الفساد المالي ظاهرة مُسْتَفْحِلَة في الرأسمالية المتعولمة وتوابعها.
نُعاين في أوراق بَنَمَا أموراً كثيرة لم تَعُد مجهولة في زمن الرأسمالية المتوحِّشة. وتُعِيدنا حكايات الفساد المالي المؤطرة بالملاذات الآمنة إلى ما يُذَكِّرُنَا، كما أشرنا في البداية، إلى نماذج من برامج تلفزيونات الواقع، فقد نقلتنا محتويات "أوراق بَنَمَا"، وهي تستعرض أسماءً وأرقاماً ومؤسساتٍ، إلى قلب الجزر المعزولة، من قَبِيل الباهاماس، باربادوس، والجزر العذراء إلخ، وضعتنا أمام الأراضي البكر والرمال الصفراء الشَّفَّافة والإقامات التي صُمِّمَت بطرق أقربَ ما تكون إلى الأحلام. ومن هنا بالذات، انتبهت إلى مبرّرات ربطي بين تسريبات أخبار الواقع القادمة من بَنَمَا وتلفزة الواقع، وقد أصبحت مُعَمَّمَة في قنواتٍ تلفزية كثيرة.
تنقلنا الأخبار المذكورة إلى الفراديس الدنيوية، حيث ينعم مهربو الأموال بالبحر وأمواجه، ويصنعون حكاياتٍ أخرى، تفوق منتوجات الخيال رِقَّةً وعذوبةً، وتقرّب بعضنا من دروب النعيم المُؤَكَّدَة، كما تقرِّب بعضاً آخر، أي من تعرّض للنهب من الشعوب، أمام جحيم المخدِّرات والسرقات والأسلحة الفاسدة التي حوَّلت النظام العالمي اليوم إلى كابوس صانِع أزمات ومآزق متواصلة.
دلالات
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".