أوباما "يُحاضر" العرب والمسلمين

03 أكتوبر 2014

أوباما يلقي خطابه في الأمم المتحدة (سبتمبر/2014/Getty)

+ الخط -

واحدة من التهم التي يلقيها خصوم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، السياسيون عليه، غلبة طابع "الأستاذية" على خطاباته، بمعنى أنه يتكلم كأستاذ يحاضر طلاباً. ويستند اتهامهم إياه بهذا إلى حقيقة أن أوباما زاول مهنة التدريس الجامعي يوماً، وهو وإن تميزت خطبه بالفصاحة، إلا أنها، في أحيانٍ كثيرة، تبقى أسيرة أسلوب "الأستاذية" ذاك.

طبعاً، وتجليةً لأي توهم في هذا السياق، فإن خصوم الرجل السياسيين، خصوصاً في الحزب الجمهوري، لا يقصدون بذلك كيل المديح له، بقدر ما أنهم يسعون إلى الانتقاص منه، فهم يريدون أن يقولوا، عبر اتهامهم هذا، بأنه رجل، وإن ملك شيئاً من البيان والفصاحة، غير أن ذلك يأتي على حساب المضمون وافتقاده الزعامة.

على أي حال، وبغض النظر عن الخلافات الحزبية ومنطق المناكفة السياسية اللذين يؤطران هذه التهمة، إلا أن فيها الكثير من الصحة، وهي نزعة تتكرر في خطابات أوباما، في السياستين، الداخلية والخارجية، وجديدها كان في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، (24/9). وفيه، لم ينس أوباما أن يُحاضر "المجتمعات المسلمة" عن ضرورة "أن ترفض بكل جلاء، وبشدة، وبثبات عقيدة، منظمات من أمثال القاعدة وداعش. (ذلك) إن أحد واجبات كل الديانات العظيمة التوفيق بين التديّن والعالم العصري المتعدد الثقافات. (فـ) ليس هناك أطفال يولدون وفي قلوبهم حقد أو كراهية، ولا ينبغي، في أي مكان، أن يتعلم الأطفال كراهية الآخرين". معتبراً أن "العنف داخل المجتمعات المسلمة أصبح مصدر كثير من البؤس البشري"، وأن "الوقت قد حان للاعتراف بالدمار الذي أحدثته الحروب بالوكالة وحملات الإرهاب بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط". وختم "توجيهاته" و"نصائحه" بالقول "أما نقطتي الرابعة والأخيرة، فهي بسيطة: ينبغي على دول العالمين العربي والإسلامي أن تركّز على الإمكانات الاستثنائية لشعوبها، وخصوصاً الشباب. وهنا، أتوجّه مباشرة إلى الشباب عبر العالم الإسلامي. إنكم سلالة تقاليد عظيمة تنادي بالتعليم، وليس بالجهل، وبالإبداع والابتكار، وليس بالتدمير، وبتكريم الحياة، وليس بالذبح والقتل. وأولئك الذين يريدون إبعادكم عن هذا الطريق يخونون هذه التقاليد، ولا يدافعون عنها".

لقد أظهرتم أنه حينما يستحوذ الشباب على الأدوات المفضية إلى النجاح، المدارس الجيدة، والتحصيل العلمي في الرياضيات والعلوم، واقتصاد يغذّي الإبداع وريادة الأعمال، فإن المجتمعات ستنتعش حينذاك وتزدهر. وستكون أميركا شريكاً للذين ينادون بهذه الرؤية. وحيثما تصبح النساء مشاركات بشكل كامل في سياسات بلد ما أو اقتصاده، فالأرجح أن تفلح المجتمعات. ولهذا السبب، ندعم مشاركة النساء في المجالس البرلمانية والعمليات السلمية، وفي المدارس والاقتصاد.

وفي نهاية المطاف، إن رفض الطائفية ورفض التطرّف مهمة أجيال بكاملها، وتتكفّل بها شعوب الشرق الأوسط بنفسها. وما من قوة خارجية تستطيع أن تحقق تحولاً في العقول والأفئدة. ولكن، أميركا ستكون شريكاً محترماً وبنّاءً".

كلام أوباما واضح ومباشر، فجلُّ مشكلات العالم اليوم مصدرها العالم الإسلامي والمسلمون، وهو يطالب بعملية إصلاح فكري وتعليمي، كما لم ينس أن يشير، في موقع آخر من خطابه، إلى ضرورة الإصلاح الفقهي. جميل، غير أن الغائب، هنا، هو أي حديث عن دور سياسات الولايات المتحدة، وحلفائها من الغربيين، والأنظمة العربية القمعية والشمولية، وإسرائيل، عن مآسي المنطقة، وموجة التطرف فيها. بل إن أوباما، ومن دون أدنى تردد ولا خجل، يقول: "فهم الوضع في العراق وسورية وليبيا ينبغي أن يوقظ أي شخص من الوهم القائل إن الصراع العربي-الإسرائيلي هو المصدر الرئيس للمشكلات في المنطقة".

أوباما مثلاً، الذي يتحدث عن حروب بالوكالة بين السنة والشيعة في العراق وسورية، لا يشير، أبداً، إلى دور بلاده التي غزت العراق عام 2003، ودمرته، وَشَظَّت فسيفسائه الإثنية والعرقية والمذهبية. أبعد ما يذهب إليه الرجل هو أن يذكرنا دائما بأنه كان معارضاً للحرب منذ اليوم الأول لها، ولكن، أن تتحمل بلاده المسؤولية، فهذا أمر آخر. أيضاً، لا يذكر الرجل، أبداً، أن إدارته هي المسؤول الأكبر عن خنق الثورة السورية، وذلك برفض السماح بتسليحها، بشكل جيد، للدفاع عن نفسها وشعبها أمام آلة نظام بطش مجرم، ثمّ إنه لما "استيقظ فجأة" على خطر "داعش"، وقرر تسليح بعض مقاتلي المعارضة وتدريبهم، فإنه حدد لهم هدفاً مركزياً، مفاده قتال "داعش"، لا نظام الأسد. وبعد ذلك يقول إن الصراع السني-الشيعي تسبب بمقتل أكثر 200 ألف سوري.

دع عنك أن هذا الرئيس، ومعه وزيرة خارجيته السابقة، هيلاري كلينتون، كانا قد صدّعا رؤوسنا في سنوات "الربيع العربي" بخطابات سياسية، تجادل بأن الاستقرار طويل الأمد يقوم على هدم أصنام الديكتاتوريات في العالم العربي وإشاعة الحريات والديمقراطية فيه. بل إنهما جادلا، غير مرة، بأن الحرية والديمقراطية في المنطقة العربية هي الطريق الأمثل لمحاربة "التطرف" و"الإرهاب"، كما لصناعة المستقبل، وأن بقاء نظم الحكم القمعية، يعني إبقاء بيئة تفريخ "التطرف" و"الغضب في المنطقة، ثمَّ، "فجأة"، وإذا بالسياسة الخارجية لإدارته ترتد على أدبارها، مرة أخرى، مؤيدة الانقلابات العسكرية على الشرعيات الشعبية، والعودة إلى عقود القمع والكبت والخوف في الفضاء العربي، بذريعة أن الاستقرار، ضمن المصلحة الأميركية، يتأتى إلا عبر هذه الأنظمة الشمولية، لا عبر الديمقراطية والحرية!

وينطبق المنطق نفسه على القضية الفلسطينية، والتي اعتبرها أوباما ووزير خارجيته، جون كيري، في تصريحات ومواقف لهما، سبباً مركزياً لانعدام الاستقرار في المنطقة. بل إن عدداً من أركان إدارته، مثل نائبه، جو بايدن، ومدير استخباراته السابق، الجنرال ديفيد باتريوس الذي كان قائداً للمنطقة العسكرية الأميركية الوسطى، التي يقع الشرق الأوسط ضمن اختصاصها، قالا هذا مباشرة. ومع ذلك، يعود أوباما، فيسحب كل ما قال، بعد أن انكسر أمام تعنت رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ورفضه إنجاز أي تسوية سياسية مع الفلسطينيين. ومع ذلك، "أستاذية" أوباما لا تظهر إلا معنا نحن، العرب والمسلمين!

للأسف، وعلى الرغم من النبرة المهينة الذي خاطبَنا بها أوباما أخيراً، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإننا نحن من نتحمل المسؤولية الأكبر. فما دام جُلُّ حكامنا القمعيين والديكتاتوريين من الذين كانوا يجلسون أمامه وهو يُحاضرهم، وشرعية معظمهم تقوم على منطق الغلبة والدعم الأجنبي، لا الرضى الشعبي، فإنه يحق له أن يخاطبهم كتلاميذ ينتظرون توجيهات أستاذهم.

لكن، أيضاً، على أوباما أن لا ينسى، أن عقوداً طويلة من السياسات الأميركية، الظالمة والمنحازة، في فضائنا الجيو-استراتيجي، لم تنجح يوماً في كبح نزعة الرفض والتحدي لها، وسياسات أوباما لن تكون أوفر حظاً، ولا حتى لغته "الأستاذية". فمحضن توليد "التطرف" و"الإرهاب" الأصلي يبدأ من سياسات أميركا السيئة في المنطقة، وفي مقدمتها دفاعها عن أنظمةٍ لم تنجح إلا في القمع، وفي إبقائنا، نحن، غالبية العرب والمسلمين، في ذيل الأمم، تخلفاً وكبتاً.