أمس وضعتُ طفلة، حمّمتها وألبستها طقماً قطنياً أحمر، حملتها إلى البلكون وألقيتها منه، راقبت سقوطها الذي أخذ يتباطأ فجأة، لتعاود الارتفاع من جديد وتطير مثل بالون. وقفتُ على أطراف أصابعي وحاولتُ الإمساك ببالون بشري أحمر أفلتّه من يدي.
ها أنذا أكتب يومياتي ما أن أستيقظ، اليوم هو السادس من مارس، الطقس بارد، وقد انتهيت قبل خمسة أعوام من قراءة رواية "قصر الجليد"- أستيقظ كل يوم ومعي ذكرى من كتاب، وأخرى من حياتي السابقة، وقطعة من أحلامي- انهرتُ تماماً أثناء قراءة الرواية النرويجية، كانت أشبه بالمشي على بحيرة رقيقة متجمدّة، وكنت كل يوم أقرأ وأسقط من جديد.
كان ثمّة شيء يكدّر اندفاعي في الكتاب، كأن تارجاي فيسوس اختار أن يكتب رواية متطرّفة عن الموت. ماذا أعني بذلك؟ كيف تُكتب رواية متطرفة عن الموت أساساً؟ ربما حين لا يُقاس الإدراك فيها بالعقل ومنطق الأشياء، حين يكون الأبطال أطفالاً يلتقون بالموت لأول مرة.
في ما بعد، قرأت له "القارب في المساء"، وتأكدت أنني قارئة مهددة في كتاب ليس آمناً، أحداث الكارثة جزء طبيعي وعفوي منه. حين ترى بأم عينيك من سطر إلى سطر أن العالم ليس متاحاً للفهم. ما زلت أذكر المشهد الأول لفتاة في الحادية عشرة اسمها "سيس" شديدة البياض والضجر تتمشى في الظلام. الظلام الذي كانت تتغذى عليه الرواية.
وأنا صغيرة، كان هناك أمور بسيطة أفعلها لتسعدني، ليست في مقدوري الآن. حرق جندب بعود كبريت، التلويح بأغصان مشتعلة، حبس ذبابة تحت كأس ومراقبتها. كانت هناك أمور أخرى، فعلتها لأقبض على حفنة من عالم الكبار، النظر في عيونهم، التلصّص على غرفهم، التحدّث بطريقتهم. وكان لديّ سر أيضاً، مثل "سيس"، التي ظننتها بطلة الرواية، حتى اكتشفت أنها مثلي، مجرد شاهد على موت شخص آخر "أون"، التي ستموت باكراً.
لم يكن بإمكاني، وأغلب الظن ليس بإمكان أحد، أن يفهم "قصر الجليد" من دون أن يعود طفلاً. كان فيسوس في ستيناته حين كتب رواية بعقلية طفلتين. لذلك يمكن لأي قارئ أن يكون مهدداً بالانهيار مثلي، من يعرف إلى أين يمكن أن تأخذنا العودة إلى طفولتنا.
سيس الضجرة، وضجر الأطفال لا يمتّ بصلة لضجر الكبار، ربما يكون أخطر، أكثر غموضاً، تأخذ أون لغرفتها، تخلع الاثنتان ملابسهما وتقفان أمام المرآة، تتحوّلان إلى مخلوق واحد بثماني أعين، تقول "أون" إن لديها سراً وبسببه لن تدخل الجنّة، سأقرأ الرواية دون أن أعرف ما هو، ربما يكون عندي سر مثله!
حين ماتت شقيقتي كنت أصغر من "سيس"، وكانت هي أكبر من "أون"، كنت أحاول اجتياز "الهاي واي"، قبل أن تركض هي لتنافس شاحنة مسرعة وتفشل في محاولتها، في ثوان تحوّلت الطفلة إلى بالون، طارت فعلاً! وكنت ألاحقها بعينين ممتلئتين بالنظر، مثلما كنا ننظر إلى المرآة ونتبارى في تقليد فم سمكة. وكنا حين نرى انعكاس وجهينا بعد حزنٍ ما، أسألها: أختاه حين تنظرين إليّ في المرآة؟ هل يبان سرّي عليّ؟
اقرأ أيضاً: عائلات لا مرئية