أنقذوا مصر من الشحاتين والبؤساء وأبناء السبيل!

11 مارس 2019
+ الخط -
"نحن لا نكذب لكننا نتجمّل"، يمكن أن تلخص بهذا التعبير "الإحسان عبد القدوسي" البديع وقائع الحملة الصحفية "الغيورة على سمعة مصر" التي قادتها مجلة (المصور) أوسع المجلات المصرية انتشاراً وتأثيراً في 14 ديسمبر سنة 1928، حين توجهت في صدر صفحتها الأولى بالنداء إلى الأمة المصرية حكومة وشعباً، لكي يؤدي الجميع واجبهم "نحو الفقراء وأبناء السبيل ومن لا مأوى لهم ولا معين".

كان وراء هذا الاهتمام الشديد من المجلة، أن مصر كانت على مشارف انعقاد المؤتمر الطبي الدولي، الذي سيشارك فيه "صفوة من علماء أميركا وأوروبا"، والذين تنبه المجلة قراءها إلى أنهم "سيشاهدون بلادنا وأهلها ويحكمون لنا أو علينا، وهم سيرون إلى جانب الاحياء الأوروبية الفخمة الأحياء الوطنية القذرة. وسيشاهدون أفراد الطبقة الراقية من الأمة، كما سيشاهدون البؤساء والفقراء والشحاذين وأبناء السبيل، أولئك الذين لا يخلو منهم شارع من شوارع العاصمة في أية ساعة من ساعات النهار، فهل من مصلحة مصر أن تدع شيخاً عاجزاً يمد يده للسؤال أو صبياً يترشح بالبطالة للتشرد عندما يشب أو بائساً ينام في الشارع لا مأوى له؟".



رأت المجلة أن الحل الأنجع لإنقاذ مصلحة مصر هو وضع "هذه الطبقة البائسة من الأمة في ملاجئ ومدارس تأويهم كما هو الحال في البلدان الراقية"، لكن المجلة لم تنتبه إلى أن تطبيق هذا الحل سيكون أمراً صعباً، خاصة أنها اقترحته قبل بدء انعقاد المؤتمر بيوم واحد، وربما كان سيكون له تأثير أكبر لو كانت قد انتبهت قبل فترة أطول من انعقاد المؤتمر إلى وجود "المصريين البائسين" الذين يملأون شواع القاهرة، والذين أشارت المجلة إلى نماذج محددة لهم من بينها: "صبيان يعدّان أعقاب السجائر ـ رجل ضرير ينام على أحد الكباري ـ ولدان شريدان من أبناء السبيل ـ فقيران في باب أحد الجوامع ـ شحاذ في سن الشيخوخة ـ نائم في الهواء الطلق"، مؤكدة على واجب الحكومة في إنشاء الملاجئ لإيواء أفراد الطبقة البائسة من الشعب، ليس من أجل سواد عيونهم، بل "حرصاً على سمعة مصر وكرامتها"، وهو ما يجب ألا تقوم به الحكومة وحدها، بل يجب أن يشارك فيه "أغنياؤنا الذين تكدست الأموال في خزائنهم وعليهم أن يفتحوها ويبذلوا منها في سبيل الخير".



لم تخصص المجلة الغيورة على سمعة مصر ضمن حملتها الصحفية مساحة لتفصيل أسباب ظهور هؤلاء الفقراء والبؤساء "فجأة" في شوارع المدينة، ليشكلوا خطراً على سمعة مصر ويزعجوا راحة ضيوفها من صفوة العلماء والأطباء القادمين من بلاد الفرنجة، ومع أنه كان من المحظور على المجلة طبقاً لقوانين الرقابة الصارمة، أن تطالب ملك البلاد وأسرته الغارقة في النعيم، بأن يبدأوا بأنفسهم وبأموالهم وامتيازاتهم للإسهام في القضاء على الأسباب المؤدية للفقر والبؤس، إذا كان حريصاً حقاً على سمعة البلاد التي يحكمها، فإن المجلة لم تقم حتى بتوجيه أصابع الاتهام إلى من يتحمل المسئولية السياسية عن تلك "الظاهرة المزرية"، أي وزارة اليد الحديدية التي شكلها محمد محمود باشا زعيم حزب الأحرار الدستوريين، عقب انقلاب قام به الملك فؤاد على حكومة الوفد المنتخبة، ليقوم "الدستوريون" بتعطيل العمل بالدستور وحكم البلاد بالحديد والنار، ولذلك لم يكن مستغرباً أن تتغير لهجة المجلة في الأجزاء التالية من حملتها، حيث كان واضحاً في عددها الصادر بتاريخ 28 ديسمبر 1928 قيامها بالتركيز على أهمية الدور الذي يجب أن يلعبه الأغنياء في حل المشكلة، وتخليها عن التشديد على أهمية قيام الحكومة في المقام الأول بإنشاء ملاجئ تضم البؤساء المتجولين في الطرق والذين كانوا وصمة عار على مصر التي هي "الأمة المتمدينة الوحيدة التي تهمل أمر متسوليها وبائسيها".



فبعد أن أشادت المجلة بالملجأ الذي قرر المحسن الكريم السيد عبد الرحيم الدمرداش باشا إنشاءه "بجوار مستشفاه لإيواء مئة عاجز خمسين من الرجال وخمسين من النساء، على منوال ملجأ العجزة الذي يديره جماعة من الرهبان الأجانب في حي شبرا"، لفتت انتباه الأمة المصرية إلى أن "من يتتبع حركة إنشاء أمثال هذه الملاجئ في أوروبا يجد أن الشعوب هناك لم تعتمد في معظم الأحيان على الحكومة في إنشائها بل كان جل اعتمادها على إحسان ذوي الأريحية والعاطفة الإنسانية من أبناءها"، ولكي تلتمس العذر لحكومة اليد الحديدية التي فشلت في إنقاذ سمعة مصر من البائسين والفقراء، أشارت المجلة إلى أن جيمس الأول ملك إنجلترا العظمى بجلالة قدرها، "هاله كثرة عدد المتسولين فسن قانونا يحظر التسول على أبنائها، ولكن ولاة الأمور الإنجليز لم يوفقوا إلى تطبيق هذا القانون تطبيقاً عملياً ناجعاً" إلا بعد أن بدأ تعميم إنشاء الملاجئ للعجزة والفقراء.

إلى جوار صورة لرجل مبتور الساق يقطع الشوارع زحفاً مستجدياً المحسنين، وصورة لشارع قذر يلعب فيه "أولادنا الفقراء الذين لو وجدوا ملجأ يأويهم لشبوا أقوياء أصحاء، ولقلت الجرائم وقلت السجون في البلاد"، وصفت المجلة أحوال شوارع مصر في ذلك "الزمن الجميل" بقولها: "أما الآن فماذا نرى في مصر؟ لا نرى في أي حي نجول أرجاءه أو في أي ميدان نمر بأطرافه سوى أيد تنبسط في الفضاء مستجدية أكف المحسنين، فإذا أدت بنا خاتمة المطاف إلى شارع تقوم فيه منتديات أبصرنا بجموع الشحاذين تموج حول موائد الآكلين والشاربين وعصي رجال البوليس أو أيديهم تهوي على أقفيتهم لتطردهم وتشتت شملهم فينطلقون جائعين متألمين دون أن يجدوا بين جمهور المتفرجين قلباً يرثي لحالهم، ويشفق على سوء مالهم".

ولأن المجلة تعرف جمهورها الذي تخاطبه جيداً، فهي تحرص على تذكيره بمخاطر إهماله لهذا الملف على مستقبله وأمانه في المستقبل قائلة " أيها الناس إنكم قد تأمنون شر العجزة الضعفاء ولكن هل تأمنون الأولاد الفقراء على مر الأيام وهل تأمنون شر المتشردين.. قال بسمارك: "عمّموا المدارس تغلقوا السجون" أما نحن فنقول: عمّموا الملاجئ ليعيش فقراؤكم أولا ثم علموهم فتكسبونهم"، معتبرة أن اهتمام الحكومة بتجميل العاصمة ليس له قيمة إذا لم تهتم قبل ذلك "بحجب منظر أولئك الذين تمثلهم هذه الصور عن الأنظار لأن هذه ليست مسألة إنسانية فقط ولكنها مسألة إنسانية وكرامة قومية في وقت واحد".



وبعد أسابيع من بداية حملة (المصور) على بؤساء القاهرة، وبالتحديد في عددها الصادر بتاريخ 25 يناير 1929، تحمل المجلة إلى قرائها أخباراً سعيدة بخصوص حملتها المصورة التي اشتركت فيها معها شقيقتها مجلة (كل شيء والدنيا) ضد ازدياد عدد المتشردين والمتسولين زيادة عظيمة في جميع أرجاء القطر قائلة: "وقد سرنا أن نسمع أن سعادة راسل باشا حكمدار البوليس عندنا أمر بإلقاء القبض على الأولاد المتشردين الذين يعثر عليهم في الأزقة والشوارع"، مشيرة إلى أن سعادة محمود فهمي القيسي باشا المسئول عن إصدار تقرير الأمن العام يرى أن البلاد محتاجة إلى أن تكون يدها الحديدية أكثر قوة، وأن تعدل قوانينها لكي لا تقوم فقط بملاحقة المتسولين والمتشردين، بل تقوم بالقبض "على من يفرون من الوقوع تحت طائلة القانون بمزاولة مهنة مزيفة يسترون بها أنفسهم ويتوارون وراءها عن عيون البوليس في ميدان العتبة الخضراء أو ميدان المحطة وهم يبيعون علبة بالفول السوداني واللب والحمص"، مؤكداً على ضرورة عمل إصلاحية كبيرة لهؤلاء أيضاً.

كالعادة، لم يتحدث أحد من كتاب المجلتين الشهيرتين عن دور النظام السياسي والاقتصادي الذي يحكم البلاد في صناعة البؤس وتعميق الفقر، وكالعادة أيضاً لم تنجح حكومة اليد الحديدية في تحسين سمعة مصر ولا تطوير أحوالها، بل ولم تنجح في البقاء على رأس السلطة إلا لبضعه أشهر بعد اتخاذها لتلك القرارات التي أسعدت (المصور) قراءها بذكرها، ليأتي على المصريين بعدها عفن جديد أكثر دموية في عهد إسماعيل صدقي، يجعلهم يحنون إلى زمن العفن الجميل في أيام محمد محمود الذي تحالف مع خصمه اللدود مصطفى النحاس وصار معه زعيماً للمعارضة من أجل إسقاط صدقي، وهو تحالف لم ينشغل به البؤساء والمشردون الذين لم يعدموا في مقبل الأيام والسنين محرضين على التخلص منهم ومحذرين من غضبتهم وخائفين على سمعة مصر منهم.

.....

العداوة والبغضاء بين المختلط والأهلي!
في عددها الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 1928 نشرت مجلة (المصور) تقريراً وافياً عن وقائع مباراة النادي الأهلي ونادي المختلط ـ الذي تحول بعد ذلك إلى نادي الزمالك ـ لن تشعر حين تقرأه، أنك تقرأ تقريراً عن سير مباراة رياضية، ولن أطيل عليك في وصف التقرير، بل سأتركك لقراءة مقدمته المدهشة التي جاء فيها بالنص: "وأخيرا كتب لهذه المباراة أن تنتهي بعد أن كادت تعصف بها الآراء وتتنازعها الأهواء وبعد أن مد العفاء إليها يداً تجتذبها إلى طريق لا ندري له من نهاية، ولا نعرف لمستقره غاية، فقد ضربت القطيعة بين هذين الناديين في مستهل الفصل الرياضي الحاضر سياجاً من البغض والكراهية اشعل نارها قوم ليسوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فكانت وقودها الرياضة التي ظلت تحتضر أمام الجميع والكل نافر إلى تقويض أركانها وهدم بنيانها وما من راحم أو شفيع. نقول أنه كتب للمباراة أن تنتهي بعد أن تأجلت لأسباب يعرفها الجميع وقد قصدنا إلى ملعب المختلط بالزمالك فرأينا أكداساً من الكتل البشرية بعضها فوق بعض ورأينا زحاما لم نشهد له مثيلا في عالم الكرة إذا استثنينا مباريات الفرق الأجنبية في مصر. فكان هذا برهاناً قاطعاً على تأصل الهواية في نفس هذا الشعب الهادئ والوديع، وحرام أن نقتلها بما يبدو من شجار لا محل له وعناد لا موجب للأخذ به، لقد كان القوم يفدون إلى الزمالك زرافات فيتخذون محالهم في هدوء حتى إذا امتلأت المقاعد بهم وقف الباقون في المنافذ المطلة على الملعب بين ثنايا المقاعد أو جلسوا متخذين من خضرة الأرض فراشاً وثيراً".



في موضع آخر من تقريره، يصف المحرر كيف ضاعت فرصة من حسين حمدي لاعب وسط الأهلي، حيث صدتها العارضة وأعادتها إلى مختار التيتش الذي أودعها شبكة رستم حارس المختلط، ليصف المحرر ما حدث بعد ذلك كالآتي: "ولا تسل إذ ذاك عن الصراخ والتهليل والجلبة والعويل وقذف الطرابيش في الهواء وغير ذلك من العادات المستهجنة التي نتمنى أن نضع حدا لأمثالها، لكن الحكم رفض احتساب تلك الرمية إصابة، مما بعث في المختلط روحاً من النشاط الغريب، فانطلق في الملعب بهجوم شديد أسفر عن تسجيل الإصابة الأولى... وهنا استشاط الاهليون وعمد مختار والزبير إلى طلعات قيمة عساهما يحصلان على هدف التعادل ولكن عبثاً كانت محاولتهما. غير أن هذه الهزيمة لم تفت في سواعد الأهليين بل زادتهم إصرارا على التعادل أو الفوز وعملوا بكل ما فيهم من قوة ولكن التفكك كان باديا عليهم ولم يستطيعوا أن ينالوا من منافسيهم مثالا، وأغرب ما في الأمر أننا لم نر منهم تلك الألعاب المتينة التي اعتادوا أن يبرزوا بها وقد كان مدي في أسوأ أيامه وكان مختار لاعبا أقل من العادي، فإن قيل أن الرقابة كانت عليه شديدة فمتى كان مختار غير مراقب؟ وفي أي يوم لم تكن الرقابة عليه من منازليه أشد من اليوم وأنكر؟ وليت شعري ماذا دها شعير والزبير؟ لقد انقضت على الجميع صاعقة أودت بفنهم وعبقريتهم فتلاشوا كذرات في الهواء. وأخيراً كانت طلعة سديدة من الأهلي خرج لها رستم وترك الهدف خالياً فرماها مختار وأعادها قائم المرمى الخشبي فرماها مختار ثانية ولكن كان سالم قد حل محل رستم فأنقذ الموقف".

وبعد أن استفاض المحرر في وصف كل ما حدث في المباراة بطريقته الملحمية، ختم تقريره قائلاً: "وإنني إن أردت أن اصف المجيدين من فريق المختلط فقد وجب علي أن أسرد للقارئ أحد عشر اسما لن ينقصها واحد، كما أنه إذا كان من واجبي أن أطلعك على من لازمهم الحظ العاثر من الأهليين فلن أستطيع أن أنقص من هذا العدد فردا أو أزيد عليه".

ألن يكون جميلاً لو عادت (ليت شعري) ولو أحياناً إلى دنيا التعليق على مباريات كرة القدم، التي تغيرت فيها تفاصيل كثيرة، إلا العداوة والبغضاء، ولست بالغرّ الساذج لأظن أنها ستختفي إلى الأبد.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.