أم كلثوم في التلفزيون: دقائق مسروقة من خمسين عاماً

03 فبراير 2019
السيدة في باريس عام 1967 (أنيت لينا/Getty)
+ الخط -
تكاد الحفلات المصورة لأم كلثوم أن تأخذ بأبصار مشاهدي الفضائيات وبقلوبهم. مَن من عشاق فن السيدة الكبيرة لا يندهش لوقفتها، أو لاندماجها الكامل مع كل كلمة تغنيها، أو لهزة الطرب التي تسري في كيانها كله، أو لمنديلها الذي صار جزءاً من مظاهر حفلاتها لنحو نصف قرن، أو لحالة الانسجام الفريد بين أعضاء فرقتها..؟

لكن كثيرين من عشاق كوكب الشرق، ولا سيما هؤلاء الذين يتلقّون فنّها من خلال الحفلات المتلفزة، لا يعرفون أن هذه الصورة -على جمالها- تُغيِّب وراءها ما هو أجمل. وأنها، رغم أهميتها، قد ساهمت في صرف قطاع واسع من هواة الطرب الكلثومي عمّا هو أهم وأنفس وأخطر وأولى بأن يكون "الممثل الشرعي" لفن السيدة.

ربما كان متلقي الفن الكلثومي من التلفزيون بحاجة إلى تنبيه: أنت تسمع وتشاهد السيدة وهي في العقد الأخير من عمرها، وأن التلفزيون المصري بدأ إرساله عام 1960، وأن نقل أول حفل مصوّر لكوكب الغناء كان يوم 1 يونيو/حزيران عام 1961، من دار سينما قصر النيل؛ أي أن مطربة العرب كانت قد بدأت عقدها السابع، وأن "أحكام الزمن" التي استطاعت أم كلثوم تأخيرها، أو تعطيلها، مدة طويلة، فرضت نفسها على تلك الحنجرة المعجزة، ففقدت قدراً مهماً من بريقها وإعجازها، وسرعة ذبذباتها المذهلة، وشيئاً من "عُربها" الساحرة.

نعم، بقيت الأعظم والأطرب.. استمرت كالمغناطيس تجذب الجماهير من بغداد إلى طنجة.. لكن لم تكن هي، كما عرفها جمهورها في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وكما يعرفها المهتمون بجمع تراثها كله، ولا سيما في عهود قوة صوتها وعنفوانه.

تظهر أم كلثوم في عدد من الفضائيات العربية بصفة يومية، وتظهر في بعضها أسبوعياً، وتحقق نسب مشاهدة عالية، لكن متابعها تلفزيونياً، لن يستمع أبداً إلى رباعيات الخيام، ولا قصة الأمس، ولا رق الحبيب، ولا الأوّله في الغرام، ولا ثورة الشك، ولا أنا في انتظارك، ولا إلى عرفات الله، ولا نهج البردة، ولا ولد الهدى، ولا الأمل، ولا الآهات، ولا غنى الربيع، ولا جددت حبك، ولا أهل الهوى، ولا غيرها من تلك الصروح التي بنت بها أم كلثوم مجدها المهيب، وسطوتها الفنية الممتدة إلى أطراف العالم العربي كله.

يَحرم من يتلقى أم كلثوم تلفزيونياً نفسَه من أكثر من 30 محفلاً لأغنية "يا ظالمني"، بعضها أنشدت به السيدة في دمشق، وبعضها في بيروت، حيث كانت تقصف الجمهور بتصرفاتها الغنائية المبهرة، وارتجالاتها الخطيرة، وتصعد بأوتار حنجرتها إلى مناطق محظورة على أكثر المطربين والمطربات.

لن يشاهد متابع الفضائيات محفلاً لغلبت أصالح، ذلك المونولوج التاريخي الذي تفنن فيه السنباطي تعبيراً وتطريباً، واشتمل على عدد من مواطن الإعجاز الغنائي، ومنها أداء السيدة للفظة "ضنين" في عبارة "وقبك أنت عليّ ضنين"، حيث قدمت تغريداً ممتداً بياء "ضنين" عبر 23 ثانية، اعتبرها فيكتور سحاب من أعظم ما سُمع في تاريخ الغناء العربي. ولن يستمع مشاهد الفضائيات إلى محفل واحد من محافل "دليلي احتار" الأربعة وعشرين، ولن يستمتع بأداء السيدة الباهر للفظة "فرحان"، في عبارة "وقلبي من لقاك فرحان"، عندما تجود بثلاث نغمات في زمن لا يجاوز ثانية واحدة.

لن يصادف الباحث عن أم كلثوم المتلفزة محفلاً من نحو 20 من المحافل لـ"ذكريات"، ولا وصلة من نحو 15 وصلةً لـ"شمس الأصيل"، ولن تترامى إلى أذنيه تفاريد وتغاريد "هلت ليالي القمر"، ولن تدهش أذنه بقفلات "سلوا كؤوس الطلا"، وسيفوته ما تفعله السيدة في وصلاتها المتعددة لـ"سهران لوحدي"، ولن تمر عليه تحفة رامي والسنباطي "ياللي كان يشجيك أنيني"، ولا تكرارات "والموجة بتجري ورا الموجة عايزة تطولها" في "فاكر لما كنت جنبي".

التسجيلات المصورة لأم كلثوم، وإتاحتها يومياً للمستمع العادي، أنشأت جيلاً لا يعرف من تراث سيدة الطرب إلا أعمالاً اتسم أغلبها بالبساطة والخفة اللحنية وضعف النصوص؛ فأم كلثوم في عقدها الأخير، سيطرت عليها في أحيان كثيرة توجهات تجارية، أي قدمت أعمالاً لم يكن الهدف منها إلا إبقاء "جميع" الأجيال، ولا سيما الشباب، تحت هيمنة صوتها، ومع التكرار المستمر لبث هذه الأعمال، أصبح اسم أم كلثوم في أذهان جيلين من المستمعين مرتبطاً فقط بهذه الأغنيات، التي صاغ أغلبها تلحيناً كل من محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، وقد يجد المستمع في بعضها كلمات تقول: "ياللي ظلمتوا الحب.. وقلتوا وعدتوا عليه.. قلتوا عليه مش عارف إيه.. العيب فيكم.. يا في حبايبكم.. أما الحب.. يا روحي عليه".

غالباً، دفعت هذه الأعمال المتسمة بالخفة نصياً، وبالضعف البنيوي تلحينياً، بعض الشباب إلى التعجب من المكانة الكبيرة التي حازتها أم كلثوم في بلاد العرب، ولم تحزها امرأة ولا مطربة أخرى. لكن هذا المتعجب معذور، فهو قد حجب نفسه، أو حُجبت عنه أربعة عقود من الغناء الكلثومي المعجز الخطير، منذ البواكير الأولى لـ سومة مع قصائد أستاذها الشيخ أبو العلا محمد، ثم محطة الملحن أحمد صبري النجريدي، ثم انطلاقتها الكبيرة مع فكر محمد القصبجي، ثم دخول زكريا أحمد بأسلوبه الشرقي المتفرد، ثم استقرارها ورسو سفينتها على شاطئ رياض السنباطي، الذي بدت ألحانه من التوافق مع صوتها وأدائها كأنه خلق لها وخلقت له.

من المؤسف، أن الجزء الأكبر من تراث أم كلثوم ضاع فلم يحظَ بالتسجيل، أو سُجل وفُقد، أو احتفظ به هواةُ احتكارِ التسجيلات النادرة. غنت السيدة "غلبت أصالح" 23 مرة، لم يصلنا منها إلا محفلان، وأنشدت بـ"هلت ليالي القمر" 15 مرة، لم تحفظ لنا التسجيلات منها إلا محفلاً واحداً، وترنمت بـ"نهج البردة" عشر مرات، وصلنا منها أربعة فقط، وغنت "سهران لوحدي" 38 مرة، ضاعت منها 23 وصلة، وأبدعت بـ"سلوا قلبي" 17 مرة، فلم نعرف منها إلا أربعة، وأطربت بـ"أنا في انتظارك" 18 مرة، أضعنا منها 15 محفلاً، وأبهرت بـ"ياللي كان يشجيك أنيني" في 25 ليلة، فأضعنا منها 16، وشدت "سلوا كؤوس الطلا" عشرات المرات، فوصلنا منها أربعة أو خمسة محافل فقط، أما أيقونة القصبجي الخالدة، "رق الحبيب"؛ فغنتها 35 مرة، فأضعنا منها 30 من دون ندم أو اهتمام.

وشدت بـ"غنى الربيع" 16 مرة، فلم يصلنا منها إلا تسجيل واحد. وكل الأمثلة السابقة هي لأعمال وصلنا منها محفل على الأقل، بينما ضاعت جميع محافل أدوارها التسعة عشر، وكل محافل قصائد أبو العلا، وعشرات من مونولوجات القصبجي، لم يصلنا منها حفل واحد. أما أشد أقسام مفقودات السيدة، فهو للأعمال التي لم يصلنا منها أي تسجيل، سواء كان محفلياً أو إذاعياً أو إسطوانة، ويقترب هذا القسم من ثلاثين عملاً.

وبالرغم من عظم الكارثة، فقد حفظت لنا التسجيلات مئات الوصلات المحفلية، وأكثرها يصلح للبث الإذاعي، لكن الإذاعات تكتفي بعدد محدود من هذه المحافل، ومن يستمع إلى إذاعة الأغاني المصرية مثلاً، قد يظن أن محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي قد لحّنا نصف أغاني أم كلثوم، والأول لحن لها 10 أغان، ولحن الثاني 11 أغنية، بينما لحن رياض السنباطي من قالب القصيدة فقط خمسين عملاً كلثومياً؛ ما يعني من الناحية العملية أن التراث المهم لسيدة الغناء يكاد يكون محجوباً. نعم تبثه الإذاعة، لكن بما لا يتناسب مع قيمته الفنية، ولا حتى بما يراعي جانبه الكمي.

حين تغني أم كلثوم، فإنها ترسل نفسها مع فنها، ومع تجاوب جمهورها، لا تنظر في ساعة يدها، ولا تعد الدقائق والثواني، لذا نجد المحافل المختلفة للأغنية الواحدة متفاوتة في مدتها، فهذه وصلة مدتها 40 دقيقة، وهذه أخرى مدتها ساعة كاملة، وهذه ثالثة تقترب من 90 دقيقة.

 وعند أهل الفضائيات، كان هذا مبرراً كافياً لإجراء مونتاج على كل الوصلات الكلثومية المتلفزة، لتبدأ وتنتهي في موعدها المحدد، وطال القص واللصق مناطق بلغت السيدة فيها ذروة الأداء، أو قدمت خلالها وصلات بديعة من الارتجال، ليصبح "المونتاج" عدواناً على فن لا يحتمل مثل هذا اللعب التجاري، ولتكون التسجيلات المصورة تغييباً للحقيقة الكلثومية، بل لتصبح الوصلة المتلفزة مضللة للمشاهد عن حقيقة الوصلة التي يشاهدها.

44 عاماً مرت على رحيل مطربة العرب الكبرى، وفي ذكراها المتجددة، يتساءل عشاق فنها في بلاد العرب: متى تحظى "أم كلثوم الحقيقية" بعرض لائق، وبث متوازن لأغنياتها في مختلف مراحلها التي استغرقت خمسة عقود؟

دلالات
المساهمون