أمّهات الدراما السورية..النبيلات يصرخن

22 مارس 2015
حتى القاتل يجزع لصرخة أم القتيل
+ الخط -
تغادر الفنانات السوريات المخضرمات بأدائهن لشخصية الأم حيّز تجسيد الدور المؤطر بالورق المكتوب وتعليمات المخرج، إلى حيّز معايشته بكل تفاصيله والذوبان فيه، فيعدن تشكيل صورة الأم بإحساس حنون يختلط فيه ما هو شخصي وواقعي، مع المفترض والمتخيّل في البناء الدرامي للشخصية الدرامية.

النزوع نحو طرق مسارب اجتماعية جديدة للنص الدرامي السوري، وارتفاع عدد الممثلات المخضرمات المؤهلات بكامل نجوميتهن لتقديم أدوار الأمهات، واندفاع عدد من النجمات الشابات لتقديم أدوار الأم... ثلاثية ساهمت في توسيع مساحة دور الأم في المسلسل التلفزيوني السوري والتنويع فيها شكلاً ومضموناً والارتقاء بها إلى أدوار البطولة أحياناً.

كانت الإرهاصات الأولى لبطولة أدوار الأمهات في الدراما السورية ظهرت في بواكير الإنتاج الدرامي السوري، من خلال مسلسل "صح النوم" الشهير، وفيه ستخصص حلقة للاحتفال بعيدهن، سيتصدّر الرجال/ السجناء المشهد بأكمله، بينما لن تطل من الأمهات في هذا المشهد سوى عيونهن الهاربة من سواد الحجاب.

تلك العيون ستكتفي ببوح حنينهن، بينما ستترك الدموع المنسابة منها الأثر الكبير على المشاهد، وقد اختلط الدمع بصوت غوار الطوشة الشجي، وهو يغني ورفاقه أغنية "يا مو يا ست الحبايب"، تلك الأغنية التي ستصير في ما بعد أيقونة أغاني الأمهات السوريات والعربيات، وأشبه بكرسي الاعتراف لكل ابن يقرّ عند سماعها/ ترديدها بذنبه ويطلب الصفح من أمه.

امتداد تلك الإرهاصات كان من الطبيعي أن ينتهي إلى النضج الذي نشهده اليوم في الرؤية الدرامية لدور الأمهات في سرد الحكاية وأخذ موقع التأثير فيها. ومن تلك الإرهاصات وصولاً إلى هذا النضج، كان دور الأم في المسلسل السوري يجمع غايات مسرحَي أرسطو وبريخت، فيراكم حالة "التطهير الأرسطي" التي ظهر فيها ابتداءً من أغنية "يا مو يا ست الحبايب" مع حالة التفكير والمحاكمة التي دعا إليها بريخت كغاية للمسرح/ للعمل الفني، وكرّسها تالياً النص الدرامي السوري، بوصفه يقدم دراما مسلية/ مفيدة.

هذا الفعل التراكمي في شخصية الأم الدرامية، يبدو لي أن أبلغ ما تعبّر عنه اليوم ثلاث شخصيات درامية قدمت في موسمي رمضان 2013 و2014، من خلال ما عرفت بمسلسلات الأزمة السورية، هي: شخصية "أم عزام" (سمر سامي)، في مسلسل "الولادة من الخاصرة 3 ـ منبر الموتى"، وشخصية "أم رامي" (نادين خوري)، في المسلسل ذاته، وشخصية "فيحاء أم عادل" (ضحى الدبس)، في مسلسل "ضبو الشناتي ـ الحقائب".

الشخصيات الثلاث هي لأمهات في زمن الحرب، يكابدن الوجع والقلق ونار الفقد، لكنهن لا ينزلقن إلى الدرك الأسفل من الإنسانية، حيث تفرض الحرب بقسوة قوانينها الجاهلية، وإنما ينحزن إلى إحساس الأم فيهن. لا معالجة درامية عاطفية لشخصيات النساء الثلاث هنا. هنّ لسن أسيرات أحزانهن وعجزهن رغم البعد الميلودرامي لحكاياتهن، وإنما يقوم البناء الدرامي لشخصياتهن على حالة تطهير ذهني للمشاهد، ودعوته لمحاكمة عقلية. هن في بنائهن الدرامي حاملات رسالة سلام بين السوريين وللسوريين، لكنهن لا يرفعنها بسذاجة.

في مسلسل "الولادة من الخاصرة 3 ـ منبر الموتى"، سيختار السيناريست سامر رضوان نهاية لمسلسله الأكثر تشابكاً مع واقع ما يحدث اليوم في سورية، مشهداً تلتقط فيه أم لمقاتل معارض (أم عزام)، وأم لمقاتل آخر من النظام (أم رامي).

تقول أم لأخرى: "لا أنا ولا أنت اخترنا مطارحنا"، قبل أن تتفقان على أن البلد "ما رح ترجع مثل الأول... بس نقدر أنا وأنت نعملها أحسن من الأول"، ولكن كيف؟
- أم عزام: أنا ضل عندي هالشب، وأنت ضل ابنك الثاني بالجيش، هي ابني عندك.. إذا بدك تقتليه تقدري تقتليه، بس هيك هيصير إلي ثأر عندك ورح اقتل ابنك الثاني.. الموت لما يجي يا أم رامي ما بياخذ رأي حدا.
- أم رامي: لما بيجي من ربك شي، ولما يجي من بني آدم شي ثاني... ابني ما مات بحادث.. ابني مات شهيد، مات بشرف وكرامة وكان عم يدافع عن أهله وعرضه وأرضه.
- أم عزام: ابني كمان كان يدافع عن أهله وعرضه وأرضه... لو مات كان شهيد.
- أم رامي: ليش كان على الجبهة عم يقاتل الإسرائيلية ليكون شهيد؟
- أم عزام: ابنك كمان ما كان على الجبهة ليموت شهيد.. خلينا نترك اللي راحوا لربهم، هو اللي بيعرف مين مظلوم ومين بريء ومين شهيد.. أنا هلأ شايفتك مظلومة ويمكن بعد شوي تعمليني مظلومة.




يكتب سامر رضوان أعماله‬ بحد السكين، هو هنا يحفر بسكينه في كبد الحقيقة التي أضعناها. في مسلسل "الحقائب ـ ضبو الشناتي"، سنتعرف على عائلة يشكل أفرادها فسيفساء المجتمع السوري المنقسم اليوم بين موالٍ ومعارض وحيادي بكافة أطيافه، حيث ستكشف أحداث المسلسل انسياق كل واحد من أفراد هذه العائلة خلف ما يقتضيه تمترسه السياسي.

وحدها الأم فيحاء، "أم عادل"، ستتمايز عن الجميع، لتكون جبل المحامل الذي يفكر بالجميع معاً، يوم يفكر الجميع بخلاصهم الفردي، وتكون الضمير المتيقظ الذي يعلو صوته بـ"يا عيب الشوم"، كلما بدا التصرف مفارقاً لمنطق العائلة.

حوار الشخصيات/ الأمهات الثلاث سيبدو بمضمونه مفارقاً لطبيعة الحوار الذي غلب على المسلسلات التي تناولت الحدث الساخن في سورية منذ 15 مارس/ آذار 2011، هو بغالبه كان طاولة حوار بين مؤيد ومعارض، لكنه يصير مع الأمهات حواراً أشبه بجَلْد الذات/ ذواتنا، كما لو أنهن قررن أن يعدن تربيتنا، نحن أفراد العائلة الواحدة، وقد بالغنا بالقتل والقتل المضاد، وتبادلنا أدوار القاتل والمقتول ونحن ندفع الدم بالدم متناسين أنّ الدم واحد.

هذا الدور التأنيبي، الرافض، المحاسب، العاقل، المتفكر، ما كان مؤهلاً لحمله في دراما تسترضي الجميع لجمعهم سوى الأمهات، هن في الواقع يشكّلن حالة إجماع عاطفي. فحتى القاتل يجزع لصرخة أم القتيل، وهن في الدراما بلغن موقع التأثير، موقعٌ يؤكده أمام الكاميرا أداءٌ عميق لممثلات مخضرمات اعتدن ربط حبل السرة بينهن وبين المشاهد في كل مرة يقدمن دور أم.
المساهمون