فتحت أم محمد (53 عاماً)، التي تعيش في دمشق، محفظتها التي اعتادت ادخار المال فيها طوال الأشهر الستة الماضية استعداداً لاستقبال شهر رمضان. وجدت فيها 24 ألف ليرة (50 دولاراً) فقط. أعادت العد من دون أن يتغير الرقم. تقول: "وضعت يدي على رأسي وقد شعرت بصداع مفاجئ. حين رأى الأطفال المال، هلّلوا فرحاً. سألتني حلا الصغيرة: ماذا ستشتري لنا في رمضان؟ لم أرد، لكنها قالت إنها تريد حلوى القطايف والتمر والعصائر. رحت أفكّر في ما يمكن جلبه بهذا المبلغ. ماهر وأحمد سألاني أيضاً عن فطور اليوم الأول، وقد أخبراني بما يشتهيان. ثمّ أمسكتني حلا من طرف ثوبي وشدّته وقالت: أرجوك أن تردي عليّ. أعدك أن أصوم هذا العام".
تضيف أم محمد: "أخذت محفظتي ونزلت إلى السوق. كان كيلو الليمون بـ 1200 ليرة (نحو دولارين ونصف)، أي يمكنني شراء عشرين كيلو بكل ما أملك. حين مددت يدي إلى جيبي، وجدتُ أنهم دسّوا لي قائمة بما يريدون. لم أقرأها واشتريت السكر والأرز والبرغل وغيرها من الاحتياجات الأساسية. إلا أن هذه الأغراض بالكاد تكفي لأسبوع واحد. بعدها، يتدبّر الله الأمر". هذا ما كتبته أم محمد لابنتها علا التي تعيش مع زوجها في السويد. تضيف: "أنتم لاجئون با ابنتي وأعلم أنكم في وضع صعب. لكن إذا ما استطعتم إعطاء صدقة في رمضان، أرسلوا لنا ثمن الحلويات لحلا. بكت كثيراً حين عدت من السوق ولم ترَ حلويات.. ورمضان كريم".
بالنسبة إلى معظم السوريّين، باتت التحضيرات لشهر رمضان بمثابة عبء اقتصادي، خصوصاً أن أسعار السلع الغذائية تزداد أو تتأرجح بحسب سعر صرف الدولار. في هذا السياق، يقول خالد، وهو شاب سوري يعمل في إحدى شركات تحويل الأموال في سورية، إن "نسب التحويل من السوريين في الخارج إلى ذويهم في الداخل قد تضاعفت خلال الأسبوعين الماضيين أكثر من سبع مرّات، بالمقارنة مع الأشهر الماضية بسبب قدوم شهر رمضان. هذا الأمر ساهم في ضخ كميات من العملة الأجنبية في السوق المحلي، ما يعكس في الوقت نفسه مدى اعتماد السوريين على مساعدات أقاربهم في الخارج. اليوم، يستحيل أن يعتمد السوري على راتبه للعيش".
أما عبد القادر (45 عاماً) الذي يعيش في إدلب، فيقول: "لن نشتري شيئاً قبل رمضان. الأسعار ملتهبة ولا أحد يخزّن الطعام في البيت هذه الأيام. أعمل في بيع الأدوات المنزلية. إذا بعت بـأربع أو خمسة آلاف ليرة سورية، تستطيع زوجتي تحضير طبخة باللحم. وإذا لم أبع شيئاً، نأكل البرغل. لا يختلف الأمر في رمضان. في الغالب، سأتناول الفطور مع ابني في الجامع، علماً أن البعض ما زال يحرص على موائد الرحمن، فيما يفطر بقية أفراد العائلة في المنزل". يضيف أن "الصيام لم يعد صعباً وقد اعتاد الناس الجوع. المهم ألا يكون هناك قصف. دائماً ما يخبئ النظام مجازره لرمضان، ولا نعرف ماذا ينتظرنا".
في أحد أكبر تجمّع للنازحين في سورية، الواقع في مدينة أعزاز ومحيطها على الحدود التركية، ويضم نحو 165 ألف نازح، ليس هناك تحضيرات لاستقبال شهر رمضان. يقول صالح الذي يعمل في أحد مساجد مدينة أعزاز: "لا أحد هنا يفكّر برمضان. لا قدرة للنازحين على شراء شيء. لا يتحدثون إلا عن المعارك واحتمال دخول تنظيم داعش أو الأكراد. الحدود التركية مغلقة، ويأمل النازحون بوصول بعض المساعدات الغذائية مع بداية شهر رمضان".
حتى اليوم، تعتمد معظم العائلات على ما تطهوه النساء على الحطب أو أغصان الأشجار في العراء، من بطاطا وباذنجان وأرز. يضيف صالح أن "العطش هو الأصعب خلال رمضان، خصوصاً أن الناس تبيت في العراء والحرارة مرتفعة جداً في المخيمات. كلّما توجهت إلى أماكن توزيع التبرعات، أحمد الله أنني ما زلت أملك سقفاً يحميني ويحمي أطفالي. يضيف أننا صرنا نشتهي المياه الباردة".
في عشرات المناطق المحاصرة، قد لا يشعر الناس بشهر رمضان، هم الذين يصومون في غير هذا الشهر أيضاً. يقول عبدالله السالم، وهو من ريف دمشق: "الصيام ليس لنا، إنه للناس التي تشبع بعد آذان المغرب. الصيام ليس من أجل أن نجوع فحسب، بل مشاركة معاناة الجائعين حول العالم. كيف يمكن لمسلم أن يعتقد أنه سينال ثواب صيامه إذا كان يعرف أن آلافاً غيره محاصرون ولا يملكون الطعام، بينما لا يفعل شيئاً". يضيف أن "الحصار هو الصيام ونحن صائمون منذ سنوات. الأطفال أيضاً. ماذا بعد؟ ألا يحق لهم أن يفطروا؟ أيظن أحد أن هناك عائلة واحدة في الغوطة قد تتناول وجبتين في اليوم؟ لذلك لن يغير الصيام شيئاً".
من جهته، ينقل أبو طارق الذي يملك سيارة أجرة، النازحين والبضائع بين مدينة أعزاز والمناطق المحيطة بها. وبعد الانتهاء من العمل، يركنها على مقربة من مخيّم على الحدود التركية. يقول إنّ كثيرين يأملون أن يفتح الأتراك الحدود في شهر رمضان، وإن كانت لا تتوفّر مؤشّرات إلى ذلك. يقول: "أعيش على الأمل، ولا أعرف كيف نصوم هذا الشهر. الشمس حارقة في النهار، ولا مطابخ ولا مياه". لا نملك شيئاً في خيمتنا، نأكل الخبز والبندورة في معظم الأحيان". يضيف أنّ" في رمضان الماضي، كنّا ما زلنا في بيوتنا. صحيح أنّ الكهرباء لم تكن متوفّرة، لكن على الأقلّ كان لدينا سقف فوق رؤوسنا". ويشير إلى أنّ "الناس يشعرون بالاختناق في المخيم، وكثيراً ما تحدث مشاكل بينهم. هذا قبل رمضان، فكيف يكون الحال خلال الصيام؟".
عائلة أبو عمر نزحت من منزلها في مدينة إدلب ثلاث مرات، لكنها قررت العودة لقضاء رمضان فيه على الرغم من المخاطر. يقول أبو عمر إنّ "في كل مرة يقصفون فيها السوق أو المدينة، يصاب أطفالي بنوبة هلع شديدة. نحمل حقائبنا وننزح إلى منزل أهلي في قرية قريبة منا. منزلهم ضيّق جداً ولا يتسع لـ 12 شخصاً. لذا قررنا العودة لقضاء رمضان في منزلنا". يضيف: "أعدت إصلاح الشبابيك واستبدلت الزجاج المكسور بالبلاستيك، حتى لا تصيبنا الشظايا إذا وقع أي شيء من حولنا". ويتابع: "نخشى القصف الهمجي في رمضان، لكنّنا على الأقل، نشعر في منزلنا بالاستقرار النفسي وقد مللنا التشرّد". ويشير إلى أنّ "على الرغم من ذلك، أشعر كأنّني على قنبلة قد تنفجر في أي لحظة. إن كتب الموت في رمضان فلأمت. لكن أدعو الله أن يحمي أطفالي ليفرحوا بالعيد من دون خوف".