أميركا واحتجاز الديمقراطية في مصر (1-2)

26 اغسطس 2014

جيمي كارتر وأنور السادات في حديقة البيت الأبيض (5أبريل/1977/Getty)

+ الخط -


"لماذا لم يحدث انقلاب في الولايات المتحدة الأميركية؟" هكذا تساءل إيرا كورزبان، محامي الرئيس الهاييتي جان بيرتراند أريستيد، الذي تم خلعه بعد انقلاب عام 2004، في ندوة في مدينة ميامي الأميركية قبل أشهر، وكانت إجابته الساخرة "لأنه لا توجد سفارة أميركية في واشنطن". حديث كورزبان كان يحمل نقداً وتهكماً على الولايات المتحدة وسياستها الخارجية، والتي يعتبرها كورزبان أحد الداعمين للانقلاب الذي أطاح الرئيس المنتخب أريستيد. وهو الأمر الذي يسري على سلسلة طويلة من الانقلابات السياسية والعسكرية التي وقعت طوال النصف الثاني من القرن العشرين في مختلف أنحاء العالم، ويبدو أن ثمة دوراً للولايات المتحدة في تنفيذها، ضمن الإطار التاريخي للحرب الباردة.

هل الولايات المتحدة تدعم الديمقراطية؟ وما هي طريقة هذا الدعم وأسلوبه؟ أم أنها تدعم الأنظمة السلطوية التي بإمكانها الحفاظ على المصالح الأميركية؟ وهل تصبح الديمقراطية ثمن التحالف بين هذه الأنظمة وواشنطن؟ هذه الأسئلة المهمة يجيب عنها الباحث المعروف، جايسون براونلي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس في أوستن، في دراسته العلاقة الاستراتيجية بين أميركا ومصر، المعنونة بـ"احتجاز الديمقراطية.. سياسات التحالف الأميركي-المصري".

يمثل دور الولايات المتحدة الأميركية في دعم الديمقراطية أو عرقلتها، إحدى القضايا الخلافية في الحقل الأكاديمي. وبينما يرى بعضهم أن الولايات المتحدة يجب أن تدعم الديمقراطية حول العالم، اتساقاً مع المبادئ والقيم الأميركية، فإن البعض الآخر يرى أن الولايات المتحدة لم تفعل سوى العكس، وأنها ساهمت في إجهاض تجارب ديمقراطية ناشئة عديدة، حفاظاً على مصالحها. ولهذا التيار الأخير ينتمي براونلي الذي يمثل جيلاً جديداً من الباحثين الجادين الذين درسوا مسألة التحول الديمقراطي في العالم في العقدين الأخيرين. وقد نشر كتاباً مميزاً عن الموضوع عام 2007، بعنوان "السلطوية في عصر التحول الديمقراطي"، الذي يعد مرجعاً مهماً للباحثين في فهم ديناميات والتحول الديمقراطي ومصاعبه، في بلدان مثل مصر وباكستان وإيران والفلبين. وبينما يمكن تفسير بقاء الأنظمة السلطوية في المنطقة العربية بعوامل كثيرة، منها المداخيل النفطية العالية، وضعف المؤسسات الداخلية، فضلاً عن تشرذم المعارضة، فإن براونلي يلفت الأنظار إلى الدور الذي ساهمت به الولايات المتحدة في بقاء هذه السلطويات. ومن مفارقات يتحدث عنها براونلي، أنه بينما كان من الممكن توقع مساندة الولايات المتحدة الأنظمة الاوتوقراطية في مرحلة الحرب الباردة، فمن غير المفهوم استمرار مثل هذا الدعم، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وانتهاء الحرب الباردة. وهو ما يحاول براونلي تفسيره في كتابه الجديد.

كانت الديمقراطية، ولا تزال، هي الضحية الأولى للعلاقات بين القاهرة وواشنطن، منذ أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحتى الرئيس المخلوع حسني مبارك. وهنا، يشير براونلي إلى وقائع كثيرة، ربما لم يكتب عنها الكثير، حول علاقة أميركا بعبد الناصر. فعلى عكس ما هو شائع، أن عبد الناصر كان يناصب أميركا العداء بشكل أيديولوجي وسياسي، كان عبد الناصر حريصاً على الحصول على الدعم والمساعدات الأميركية، من أجل بناء مشروعه الصناعي والتنموي.

وقد كانت هناك محادثات فعلية على أعلى المستويات بين الطرفين، حتى عام 1963، بعد أن وافق الكونجرس الأميركي على تقديم مساعدات لمصر تحت برنامج "الغذاء مقابل السلام"، الذي أقره القانون رقم 480، الذي يسمح بتوريد القمح لمصر، التي كانت آنذاك، ولا تزال، أكبر مستورد للقمح في العالم. وكانت هناك خطط أخرى لتقديم مساعدات عسكرية واقتصادية طويلة المدى لمصر، في إطار محاولات أميركا إبعاد مصر عن الاتحاد السوفييتي. وفي إطار حرص عبد الناصر على الظهور بمظهر "البطل" أمام العالم العربي، فقد رفض الانضمام إلى المعسكر الغربي، حينئذ التقط السوفييت الخيط، ومدوا مصر بالغذاء والسلاح، وبذلك ضموها إلى المعسكر الشرقي. ويورد براونلي تعليق مسؤول بريطاني عن حكم عبد الناصر، بقوله: "إن هذا الرجل قد حول مصر إلى دولة بوليسية تماماً".

وفي عهد الرئيس السادات، كان "السلام مقابل الحرية" بمثابة الغطاء الذي جرى تحته وأد الديمقراطية في مصر. فبعد عودة العلاقات بين القاهرة وواشنطن، إبان عهد السادات، كان السلام مع إسرائيل يحتل الأولوية القصوى على أجندة هذه العلاقات. يلخص براونلي ذلك بعبارة رشيقة تقول إن "الدبلوماسية الجريئة تحتاج دائماً إلى سلطوية قوية"، موضحاً أنه لولا سلطوية السادات وفرضه قراراته على المجتمع، لما نجحت أميركا في تحويل مصر من حليف قوي للاتحاد السوفييتي السابق، إلى دولة تابعة للسياسة الأميركية خلال أقل من عقد. فقد فرض السادات معاهدة السلام مع إسرائيل على المجتمع، واستخدم كل وسائل القوة لإجبار القوى السياسية على قبول المعاهدة، ولم يعبأ بالرأي العام، أو بالمعارضة، ما أدى، في النهاية إلى اغتياله ونهاية حكمه. وقد سار مبارك على نهج السادات، فقمع معارضيه وفرض عليهم قبول السلام مع إسرائيل، وقدّم تنازلات سياسية تتعلق بدور مصر الإقليمي من أجل التجاوب مع ضغوط واشنطن.

يرى براونلي أن المساعدات الأميركية لمصر ساهمت بشكل كبير في بقاء حسني مبارك في السلطة، ولعبت دوراً سلبياً في تعطيل المسار الديمقراطي في مصر، وساهمت في خلق نظام سلطوي قوي طوال العقود الثلاثة الماضية. الأكثر من ذلك أن بروانلي يرى أن الولايات المتحدة تحولت، مع الوقت، من مجرد قوة خارجية إلى لاعب داخلي في السياسة المصرية، من خلال تحديد ورسم حسابات النظام وأولوياته ومصادره. في حين ساهم استمرار الدعم الأميركي نظام مبارك في تقويض المعارضة الداخلية.

ويسرد بروانلي، وبإيراد تفاصيل كثيرة مهمة، كيف جرت المفاوضات بين إسرائيل ومصر برعاية الولايات المتحدة، من أجل إقرار معاهدة السلام بين البلدين. وكيف نجح الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، في تذويب الخلافات التي كادت أن تطيح المعاهدة أكثر من مرة. وفى حين اعتقد السادات، بسذاجة واضحة، أن كارتر سوف يقف إلى جواره في مفاوضاته مع الإسرائيليين، وممثلهم مناحيم بيغن، فإن كارتر كان يبدو متفاجئاً من ثقة السادات به، وهنا يقول "بدا واضحاً أن السادات يثق بي أكثر من اللازم، مقارنة بمناحيم بيغن". وقد راهن كارتر على سلطوية السادات، وقدرته على فرض السلام على المصريين، بل وعلى بعض أعضاء حكومته، حسبما يشير براونلي. وهو ما حدث بالفعل، فقد كان كارتر في حاجةٍ ماسةٍ للتوصل إلى نتيجة بين السادات وبيغن، من أجل ضمان إعادة انتخاب حزبه في انتخابات التجديد النصفي في الكونجرس عام 1978، لذا، فقد ضغط على السادات من أجل حصر اتفاقية السلام في ما يخص مصر، من دون الحديث عن الوضع في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. وبعد اثني عشرَ يوماً من المحادثات المكوكية، تحقق لكارتر وللإسرائيليين ما أرادوا، وخرجت مصر من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، منذ ذلك الوقت وحتى الآن.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".