27 أكتوبر 2024
أمر اليوم
تتالت منذ أيام نصوصٌ صحافية كتبها من كان يُعتقدُ أنهم جادّون في البحث العلمي، أو حتى في التحقيق الصحافي. المشترك بينها السعي إلى تثمين دور باحثين أجانب سيئي المعرفة، كما الموقف. وفي المقابل، يهتكون سمعة باحثين آخرين، سخّروا كل عملهم، بعيداً عن الأنظمة المستبدّة والمدارس الفكرية الأبوية والثقافوية، لمحاولة فهم مسارات المجتمعات العربية والإسلامية، بالإحاطة بمجمل زوايا الصورة، وليس بالاكتفاء السهل بزاويةٍ واحدةٍ أو ربع زاويةٍ حتى، تخدم أجندةً فكريةً إقصائيةً، أو بناءً على طلب من لديه السلطة والمال.
في الشؤون العسكرية، يبدأ اليوم بما يسمّى "أمر اليوم"، والذي يوزّع على مجمل القطعات، ويطلب التنفيذ لما فيه "مصلحة الوطن والقوات المسلحة". ويبدو أن هذا الأمر انسحب على قطاعاتٍ كان مفترضا أن تكون الأبعد عن الروحية والذهنية العسكريتين، وأن تتمتّع بحريةٍ نسبيةٍ في التعبير وانتقاء الأهداف والمسارات. وفي أيامنا المتصحّرة على المستوى المبدئي، يتقدّم بعض الصحافة هذه القطاعات، والتي مع تطوّر الاصطفافات والمدارس الأمنوثقافوية، صار فيها "أمر اليوم" معتاداً. وصار من شبه المعتاد أن نتلمّس، من وقتٍ إلى آخر، حملاتٍ منظمة، كالأرتال العسكرية، باتجاه فكرةٍ أو شخصٍ أو قضيةٍ عبر "زملاء" الدرب في الوعي والمعاناة والتعبير.
وفي القضايا العربية المتشابكة، والمتراكمة سلباً، والمكوّنة من هزائم وإحباطات وإقصاء
واحتلال واستبداد وتكفير وتوزيع وطنية، وتحديد ارتفاعات أسقف الوطن وجدرانه، يبقى لنا في الساحة الغربية النزر القليل ممن ما زال يؤمن بأننا، نحن الشعوب، لسنا المصدر الأساسي لأمراض العصر، سياسيةً أم ثقافية. بل ويجهد هؤلاء لإبراز دور عامليْن أساسيين في الانحرافات والهزائم: السلطة المستبدّة، والتي لم يبخل الله على العرب، بتنويعاتها من جهة، والعامل الخارجي، بعيدا عن نظرية المؤامرة، في تحمّل جزءٍ من المسؤولية. وكلاهما عاملان يُضافان بالطبع، وبالأساس، إلى خلطةٍ مبتكرةٍ من العوامل الذاتية التي تتسم بها المجتمعات العربية، أو من في حكمها، نتيجة عقود التصحّر الفكري والتجويع الثقافي الذي أصاب المعرفة والوعي في مقتلٍ. فصار من المتاح، من دون أي حرجٍ، أن يعتبر أحد كبار فرسان "التنوير" الإقصائي العربي أن خبيراً فرنسياً معنيا بالسياسات الرسمية، ومُحابيا كل السلطات المستبدّة، هو "أهم مثقف عربي"، لأنه، حسب فطحل الفكر، قد أشار منذ بدء "ما تسمّى"، كما يقول هو وأترابه، الثورات العربية، إلى البعد الديني المجتمعي المهيمن عليها، وأنها حركات دينية متطرّفة. وهو يتناغم في هذا الحسم "الجاهلي" مع خطابات السلطات المستبدّة.
باحثٌ مشهورٌ بأنه يُعلّق ويكتب في كل حقلٍ عربي أو إسلامي، من دون أن يكون قد أمضى يوماً دراسياً واحداً في البلد المعني منذ أنهى دراساته العليا، فزيارات "أهم باحث عربي" اقتصرت، وما زالت تقتصر، على مرافقة الرؤساء والملوك، ونُصحهم وإرشادهم، من دون أن يتمكّن، لضيق الوقت ربما، من أن يُجري أي بحثٍ ميداني بالقرب من المجتمعات المعنية التي "يتشاطر" بالكتابة عنها وعليها. كما أن هذا الباحث الغربي الذي يُغدق عليه التنويري العربي المديح لا يتوقف عن القراءة الثقافوية للمجتمعات المهاجرة، معتبراً أن بذور التطرّف لديها متعلقة أساساً بانتماءاتها الدينية، من دون أية محاولةٍ لقراءةٍ علميةٍ صحيحةٍ للعوامل المختلفة التي تودي بجزءٍ قليلٍ منها إلى السقوط في أحضان التطرّف.
يضيف باحث/ صحافي آخر إلى إعجاب زميله بمن يسيئون قصداً لمجتمعه، ويعملون على
نشر مفاهيم مشوّهة، لأسباب التناغم مع الخط العام، أو بناءً على "أمر اليوم" عالي المستوى الذي يليق بمن يعاشر السلاطين، ليهاجم من تبقّوا من الباحثين الغربيين ممن يستمرّون في البحث الجاد والمنهجي، ولا يتوقف عن زيارة الأرض التي يدرسها، والانخراط في مجتمعاتها، والتمكّن من لغتها. ويصير لدى المُهاجِم سهلاً، ولا بل رخيصاً، أن يورد، في معرض إبداء الرأي، جرعاتٍ مختلفةً من الكذب واختلاق الأحداث والبناء عليها، لتكوين استنتاجاتٍ ممهورةٍ بالمستوى المتدنّي، والتي تُفرح صاحب "أمر اليوم"، وربما ترفع له الأجرة.
هنا يتوقف القارئ الواعي عند مسألة حرية الرأي، فمن أبسط ما يُمكن للناشر أن يتذرّع به، وعن حق، عند انتقاد قبول مثل هذه النصوص الركيكة، بأنه رأي، ويجب أن يُواجَه برأي، وبأنه على استعدادٍ لنشر الرد بناء على التقاليد المهنية. في المقابل، عندما يحتوي الرأي على معلوماتٍ مغلوطةٍ قصداً، وربط كاذبٍ لأحداثٍ بأشخاص، واستنتاجاتٍ إقصائيةٍ تلائم صاحب الأمر والنهي في معركةٍ منظّمةٍ، تقودها دولٌ استبدادية، لحصر كل مشكلات المجتمع فيه وحده، من دون تحميل النفس أية مسؤولية، تُصبح حرية الرأي قميص عثمان للتجنّي والتشويه.
البحث والاستنتاج العلمي مسؤوليةٌ دقيقة، ويوجد في الغرب عموماً باحثون وباحثات جادّون في فهم مجتمعاتنا، وجاهدون في تصحيح الصور النمطية، إلا أنهم يقعون بين "أنياب" بعض من أترابنا ممن يتدثّرون برداء التنوير واللبرلة، دونما تمكّنٍ من المفهومين حقيقة، ليصبحوا ضحايا التلفيق. إنه "أمر اليوم".
في الشؤون العسكرية، يبدأ اليوم بما يسمّى "أمر اليوم"، والذي يوزّع على مجمل القطعات، ويطلب التنفيذ لما فيه "مصلحة الوطن والقوات المسلحة". ويبدو أن هذا الأمر انسحب على قطاعاتٍ كان مفترضا أن تكون الأبعد عن الروحية والذهنية العسكريتين، وأن تتمتّع بحريةٍ نسبيةٍ في التعبير وانتقاء الأهداف والمسارات. وفي أيامنا المتصحّرة على المستوى المبدئي، يتقدّم بعض الصحافة هذه القطاعات، والتي مع تطوّر الاصطفافات والمدارس الأمنوثقافوية، صار فيها "أمر اليوم" معتاداً. وصار من شبه المعتاد أن نتلمّس، من وقتٍ إلى آخر، حملاتٍ منظمة، كالأرتال العسكرية، باتجاه فكرةٍ أو شخصٍ أو قضيةٍ عبر "زملاء" الدرب في الوعي والمعاناة والتعبير.
وفي القضايا العربية المتشابكة، والمتراكمة سلباً، والمكوّنة من هزائم وإحباطات وإقصاء
باحثٌ مشهورٌ بأنه يُعلّق ويكتب في كل حقلٍ عربي أو إسلامي، من دون أن يكون قد أمضى يوماً دراسياً واحداً في البلد المعني منذ أنهى دراساته العليا، فزيارات "أهم باحث عربي" اقتصرت، وما زالت تقتصر، على مرافقة الرؤساء والملوك، ونُصحهم وإرشادهم، من دون أن يتمكّن، لضيق الوقت ربما، من أن يُجري أي بحثٍ ميداني بالقرب من المجتمعات المعنية التي "يتشاطر" بالكتابة عنها وعليها. كما أن هذا الباحث الغربي الذي يُغدق عليه التنويري العربي المديح لا يتوقف عن القراءة الثقافوية للمجتمعات المهاجرة، معتبراً أن بذور التطرّف لديها متعلقة أساساً بانتماءاتها الدينية، من دون أية محاولةٍ لقراءةٍ علميةٍ صحيحةٍ للعوامل المختلفة التي تودي بجزءٍ قليلٍ منها إلى السقوط في أحضان التطرّف.
يضيف باحث/ صحافي آخر إلى إعجاب زميله بمن يسيئون قصداً لمجتمعه، ويعملون على
هنا يتوقف القارئ الواعي عند مسألة حرية الرأي، فمن أبسط ما يُمكن للناشر أن يتذرّع به، وعن حق، عند انتقاد قبول مثل هذه النصوص الركيكة، بأنه رأي، ويجب أن يُواجَه برأي، وبأنه على استعدادٍ لنشر الرد بناء على التقاليد المهنية. في المقابل، عندما يحتوي الرأي على معلوماتٍ مغلوطةٍ قصداً، وربط كاذبٍ لأحداثٍ بأشخاص، واستنتاجاتٍ إقصائيةٍ تلائم صاحب الأمر والنهي في معركةٍ منظّمةٍ، تقودها دولٌ استبدادية، لحصر كل مشكلات المجتمع فيه وحده، من دون تحميل النفس أية مسؤولية، تُصبح حرية الرأي قميص عثمان للتجنّي والتشويه.
البحث والاستنتاج العلمي مسؤوليةٌ دقيقة، ويوجد في الغرب عموماً باحثون وباحثات جادّون في فهم مجتمعاتنا، وجاهدون في تصحيح الصور النمطية، إلا أنهم يقعون بين "أنياب" بعض من أترابنا ممن يتدثّرون برداء التنوير واللبرلة، دونما تمكّنٍ من المفهومين حقيقة، ليصبحوا ضحايا التلفيق. إنه "أمر اليوم".