ألوان يناير

20 يناير 2016
+ الخط -
على الذين اعتقدوا أن كلفة الربيع العربي أكثر مما تتحمل الأنظمة السياسية القائمة أن يتطلعوا إلى كلفة الخريف العربي، وعلى الذين راعهم نجاح الثورات العربية في قيادة بلدانها إلى تحول ديمقراطي أن يحصوا الخسائر الفادحة في الجسم العربي بسبب الثورات المضادة. ومع ذلك، فإن ألوان يناير هذا العام، وبعد خمس سنوات عن ميلاد الحراك العربي الذي أطاح رموز الديكتاتورية العربية، بن علي ومبارك والقذافي وصالح وغيرهم، ليست كلها أسود وأحمر، فيها بعض من بياض في غير بلد وتجربة.
وعلى الرغم من صعوبات اقتصادية في تونس، إلا أن الفرقاء السياسيين يكتبون تاريخاً سياسياً جديداً في المنطقة، وراشد الغنوشي والباجي السبسي وغيرهما يحفرون في الصخر، اسم تونس في نادي الديمقراطيات الصاعدة في بلدٍ، خرجت منه الشرارة الأولى للثورات العربية. والآن، تخرج منه الشرارة الأولى لمسار تاريخي لتحول ديمقراطي سلمي، تتعايش فيه التيارات الثلاثة التي قلما وقعت الهدنة بينها، الليبرالي واليساري والإسلامي. وقع هؤلاء على دستور جديد، هو الأول من نوعه عربياً، يضعه مواطنون أحرار مستقلون بتوافق إرادي، ومن دون إقصاء أو احتكار للسلطة. ولولا الربيع العربي، لما ولدت هذه التجربة الواعدة بآمال كبرى، ولما تعايش حزب نداء تونس وحركة النهضة تحت سقف حكومة واحدة وبرلمان واحد، في تجربة توافق غير مسبوقة قدّرها العالم بجائزة نوبل للسلام.
المغرب حالة تشبه تونس، وإن كانت أقل عنفواناً منها، الدستور الجديد قريب من دساتير الملكيات البرلمانية، والحكومة الائتلافية يقودها إسلاميون، ويشارك فيها اليسار واليمين، ومناخ الاستقرار قد يمهد لإصلاحات سياسية واجتماعية جديدة. وقد تحقق هذا كله بفضل رياح الربيع العربي التي أقنعت القصر الملكي بضرورة التنازل عن فائض السلطة الذي كان في حوزته، والذي كان يمنع الأحزاب من لعب دورٍ أكثر مما يلعبه الكومبارس في أفلام السينما. حمل الربيع المغربي موجة من الانفتاح السياسي وإصلاح البيت من الداخل قبل فوات الأوان. وقد قاومت حكومة عبدالإله بنكيران، في سنواتها الخمس، كل أنواع الضغوط الداخلية والخارجية، وقامت بإصلاحاتٍ هيكلية، وفتحت شهية الشباب للمشاركة السياسية، وإن ظلت الأنوية الصلبة للسلطة تقاوم التغيير، مثل أجهزة القضاء والأمن والإعلام الرسمي والخاص، لكن صناديق الاقتراع في المغرب صار لها صوت مسموع، وجدار الخوف في النفوس سقط أو يكاد، والرأي العام ولد من جديد، بعد أن اعتقد كثيرون أنه مات، أو أغمي عليه.
نجحت الثورة المضادة في مصر في إطاحة ثورة يناير، وضرب اختيار الشعب وإطاحة رئيسٍ منتخب، لكن الجنرال السيسي لم يستطع أن يضع مصر على الخريطتين، الدولية والإقليمية، ولم ينجح في قلب صفحة ثورة يناير، وصفحة خصومه الذين قتل بعضهم، وسجن وشرّد آخرين. إنه مثل شخصٍ أوقف قطاراً في نصف الطريق، وقتل ربّانه، واعتقل نصف ركابه، لكنه لم يستطع أن يحركّه ملمتراً واحداً إلى الأمام. أوقف السيسي تطور مصر السياسي، لكنه لم ولن يستطيع أن يتقدم بالبلاد خطوة إلى الأمام، يضيّع الوقت فقط، ويجعل من كلفة إصلاح أخطائه كلفة باهظة بشرياً ومادياً وسياسياً، لا أكثر ولا أقل...
يُقال الشيء نفسه عن علي عبدالله صالح في اليمن، نجح في إفساد الثورة السلمية، وتحالف مع الأطراف الميتة في الجسم اليمني، بعد أن حاربها سنوات، ثم أدخل البلاد كلها إلى حرب أهلية وإقليمية لا رابح فيها. كان رئيس دولة وأصبح اليوم زعيم ميلشيا، يخوض حرباً خاسرة ضد شعبه، وضد حلفائه القدامى في السعودية. وفي سورية، نجح سفّاحها الأسد في تفخيخ الثورة بألغام الطائفية والمذهبية، لكنه لم ينجح في إعادة بسط سيطرته وسطوته على شعبه الذي قتل منه مئات الآلاف، وشرّد الملايين، هو الآن رهينة في يدي إيران وروسيا.
مرّت المرحلة الصعبة في عمر الثورات العربية، وسنشهد لاحقاً انخفاض حدة التوتر، خصوصاً إذا استمر ثمن برميل النفط في النزول، فالتقشف سيطاول الإنفاق العمومي، والتسلط السياسي أيضاً، فهذا مرتبط بذاك.

A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.