وتعد كارينباور بأسلوب جديد في القيادة، محاولةً الابتعاد قدر الإمكان بتوجهاتها عن سياسة ميركل، عبر طرح مواضيع جديدة للمستقبل، رغم أنها في الملفات الرئيسية تتطابق في الرؤى والأفكار مع المستشارة، خصوصاً في ما يتعلّق بمستقبل ألمانيا والاتحاد الأوروبي وملف اللجوء والهجرة، التي تدعو إلى تنظيمها بشكل أفضل لكون ألمانيا بلد هجرة. وكارينباور مدافعة أيضاً عن سياسات منصفة للنظام الضريبي والمعاشات التقاعدية والتعليم والصحة، في ظلّ وجود فائض في الخزينة. وما يلفت أيضاً أنها تحاول عدم اقتباس الكثير عن المستشارة، وتدفع للتركيز على أهمية التضامن العائلي من أجل حياة أسرية عاملة متلاحمة.
أمّا فريدريش ميرز، المنافس الشرس والمشاكس والمجاهر بأنّ "المسيحي الديمقراطي" يتمتّع "بوطنية سليمة متواضعة"، فيكرّر انتقاداته لقادة الحزب، داعياً إلى العمل على القضايا التي تهم الشعب. كما يشدّد على أنه ينبغي إدراج موضوع السكن على سلّم الأولويات، وحماية الوظائف والمعاشات التقاعدية والاهتمام بالرعاية الاجتماعية. ويعتبر ميرز من غير المؤيّدين للتنوّع الثقافي ويدافع عن الثقافة الألمانية الرائدة، وهو الذي حثّ خلال المؤتمرات الإقليمية على ضرورة ترسيم حدود أقوى في التعاطي مع الحزب "الاشتراكي الديمقراطي". كذلك، يتسلّح بكونه من منطقة ريفية في ولاية شمال الراين-وستفاليا، حيث يتواجد تقريباً ثلث المندوبين المشاركين في المؤتمر لاتخاذ قرار قد ينقل الحزب إلى حقبة جديدة لن تكون سهلة بعد عهد ميركل.
ورغم اختلافه في مقاربة الأمور مع المستشارة، واعتباره معارضاً لسياستها العامة، يبدي ميرز الكثير من التفاؤل بشأن التعامل مع ميركل، إذا ما نجح في تسلّم قيادة "المسيحي الديمقراطي"، وهو العائد إلى ميدان السياسة بعد غياب عشر سنوات تقريباً، انتقل فيها للعمل في مجالات المال والأعمال. علماً أنه يردّد دائماً أنّ البلاد بالنسبة إليه تأتي أولاً ليأتي من بعدها الحزب، وهذا ما يدفعه لأن يحارب ضدّ الشكوك التي تساور البعض من أنّ انتخابه زعيماً للحزب سيولّد صراعاً على السلطة مع ميركل، التي سبق أن أعلن أنّه يكنّ لها كل الاحترام والتقدير للعمل الذي أنجزته.
وكان لافتاً إعلان المخضرم رئيس "البوندستاغ"، فولفغانغ شويبله، تأييده لوصول ميرز إلى سدة رئاسة الحزب. وقد قال في مقابلة، يوم الأربعاء الماضي، مع صحيفة "فرانكفورتر الغماينه تسايتونغ"، إنه "من الأفضل للبلاد أن يحصل ميرز خلال المؤتمر الحزبي على أغلبية أصوات المندوبين، ليتولى رئاسة حزبه".
وكان ميرز اعتبر في حديث لصحيفة "دير شبيغل" في وقت سابق، أنّ أفراداً من حزبه يقللون من شأن الخطر السياسي المنبثق عن حزب "البديل" اليميني الشعبوي، مشدداً على أنه من غير المقبول أن يتمثّل الأخير في جميع برلمانات الولايات، وبنسبة 12.6 في المائة في "البوندستاغ"، قائلاً: "أنا أجرؤ على تغيير ذلك".
وفي هذا الإطار، يرى خبراء في الشأن السياسي الألماني أنّ على الزعيم المقبل للحزب "المسيحي الديمقراطي" ألا يركّز على مواجهة "البديل"، لأنّ ذلك سيكون خطأً مميتاً، بل عليه البحث عن الطريقة التي يمكن الحدّ فيها من قوّتهم الفعلية في البرلمانات. ولعلّ العامل الحاسم في ذلك، هو أن ينجح الزعيم المقبل في توجيه نقاش جدّي حول المشاكل المستجدة، وإيجاد الحلول للمشكلات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، في ظلّ تقلّص الطبقة المتوسطة التي تمثّل أغلبية الشعب الألماني، وتناقص القدرة الشرائية للأفراد وارتفاع المصاريف الثابتة. فعند ذلك يفقد "البديل"، بحسب الخبراء، صورته أمام الناخبين بعد تقديم آخرين البدائل المطلوبة، مع تشديدهم على ضرورة أن يتغيّر التعاون بين الأحزاب والحكومة مستقبلاً، أي أنه يجب مناقشة القرارات السياسية أولاً في الحزب، ولا تمليها الحكومة.
أمّا المرشّح الثالث، وزير الصحة، ينس شبان، فقد باتت فرصة وصوله صعبة، رغم أنّه قدّم للمشاركين في المؤتمرات رؤيته السياسية لفكرته "ألمانيا 2040". ويعرف شبان بتأييده لفرض ضوابط وتدابير أشدّ صرامة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي للحدّ من تدفق المهاجرين، إذ حصر تركيزه في قضية اللاجئين منذ إعلان ترشيحه، وهو الأمر الذي انتقده وزير الاقتصاد، بيتر ألتماير، في حديث مع صحيفة "بيلد" أخيراً، محذراً من نية التغيير الجذري لمسار الحزب بعد الانتخابات. وقال ألتماير "إنّ الغالبية من الألمان لا يريدون تغييراً جذرياً في المسار، ومن يريد تقليص الملفات وحصرها بموضوع واحد سيجد صعوبة في ذلك". ورأى أنه في سياسة الهجرة "تسارعت الإجراءات وانخفض مستوى تدفّق اللاجئين إلى ألمانيا بشكل كبير"، متّهماً البعض بإعادة توطين اللاجئين وطالبي اللجوء المرفوضين وخصوصاً الجناة منهم.
أمام كل هذا، يبدو أنّ الأمور ما زالت مفتوحة على الاحتمالات كافة، رغم الأفضلية البسيطة التي تمنح لكارينباور، التي تتميّز عن منافسيها بأنها ستكون مرشّحة مؤسسة الحزب وأفضل من يضمن الخلافة الودية لميركل، ولا سيما بعدما تبيّن أن المؤتمرات الحزبية قد أعادت الزخم للمشاركة الحزبية داخل "المسيحي الديمقراطي" على مستوى الولايات، وهو ما وجد فيه العديد من الباحثين دافعاً قد يولّد حماسة واندفاعة جديدة تلعب دوراً مؤثراً في الحياة الحزبية على المدى الطويل.
وعمّا إذا كان أقوى حزب ألماني بحاجة لتغيير واضح في المسار، يعتبر مراقبون للشأن الألماني أنّه بات على أعضاء "المسيحي" الحاليين إحداث صدمة إيجابية في صفوف الحزب. ولا يستبعد هؤلاء أن يصار إلى انتخاب ميرز لأنه المرشّح الأكثر جاذبية في الكفاح من أجل قيادة جديدة، وذلك نظراً لما يتمتّع به من خبرة سياسية، وفي ظلّ تنامي الخوف من أن يستغل معارضو سياسة ميركل المؤتمر الحزبي لتصفية حسابات مع المستشارة، أي أن يجتمع كل المحافظين المحبطين ضدها، فيما يتعيّن على ميرز أن يؤكّد على أنّه يستطيع العمل مع ميركل بعدما بات من الواضح أنّ المستشارة ستبقى في السلطة حتى 2021.
وبالنسبة للعديد من المحللين، فإنّ ميرز يتمتّع بكاريزما أكثر من منافسيه وقادر على التعامل مع النكسات. في حين أنه من الواضح أنّ كارينباور، المفعمة بالحيوية، تتعمّد وضع نفسها في الوسط، وهمها وحدة الحزب، وهي التي تعرف جميع القضايا التي تسبب الإحباط داخله، وتبدي حرصها على أهمية إيجاد إجابات وحلول لها، وفق ما عبّرت في العديد من اللقاءات. ولعلّ ما يميّز الأمينة العام للمسيحي الديمقراطي هو ابتعادها عن أي "منافسة مدمرة"، مع محاولة برهنة أنّها الأقدر وصاحبة الخبرة بين المرشحين، لكونها شغلت منصب رئيسة وزراء ولاية زارلاند وفازت بحملات انتخابية وأقامت تحالفات خدمت حزبها "المسيحي" في الولاية، قبل أن تنتقل أخيراً إلى برلين كأمينة عامة للحزب.
ويتوقّف البعض عند الأمور التي قد تصعّب مهمة المرشّحة المفضلة لدى ميركل، والتي وصل الأمر إلى حدّ وصفها من قبل الصحافة بـ"ميركل الصغيرة". وأهم هذه الأمور هو أنّها ستسير على خطى المستشارة، وهو ما يفيد في السياسة الخارجية للحزب، إلا أنّ ذلك يوازيه تذمّر داخلي بالنسبة للعديد من الملفات التي قادتها الأخيرة ولم تكن على قدر آمال البعض من الحزبيين. كذلك، فإنّ مقارنتها لاحقاً بميركل التي تميّزت خلال فترة قيادتها للحزب وسطع نجمها على مستوى العالم بعد أن تمكّنت من الوصول وبدعم حزبها إلى المستشارية عام 2005، وإقصاء "الاشتراكي الديمقراطي" العريق، تضعها أمام تحديات كبيرة.
وقد أفادت آخر الاستطلاعات بأنّ كارينباور تحظى بتأييد واسع وتتفوّق على منافسها الأقرب، ميرز، مع تراجع حظوظ شبان في المنافسة. وقد برز، في السياق، رأي لافت لرئيس "معهد فورسا لاستطلاعات الرأي"، مانفريد غولنر، والذي اعتبر فيه أنّ كارينباور هي الشخصية المناسبة لزعامة "المسيحي الديمقراطي"، "إذا ما أراد الحزب تحسين حضوره في المعارك الانتخابية المقبلة على مستوى الولايات، ولكون الأمينة العامة الحالية تجسّد السمات الحاسمة في عملية الاختيار".
ومع انطلاق العدّ العكسي، على الجميع الانتظار حتى نهاية الأسبوع لمعرفة من سيكون الزعيم الثامن للحزب "المسيحي الديمقراطي" بعد 70 عاماً على تأسيسه، فيما المطلوب من المندوبين اختيار قيادي يتمتّع بسيادة سياسية للمسيحي توفّر، وبالتعاون مع المستشارة أنجيلا ميركل، إجابات على الأسئلة والاهتمامات المركزية الملحّة بالنسبة إلى المواطنين.