يرجع الفضل في احتفاء الثقافة العربية بالمكان الروائي إلى الكاتب غالب هلسا، الذي ترجم كتاب غاستون باشلار "جماليات المكان"، قبل أكثر من ثلاثين عاماً. أذكر هذا لأن الموضوع قبل ذلك لم يكن شاغلاً فكرياً أو فلسفياً أو نقدياً، دون أن يعني ذلك أنه لم يكن شاغلاً فنياً مضمراً في الأعمال الروائية.
فالرواية تحدث في مكان ما، حي أو شارع أو مقهى أو شقة أو بحر أو صحراء. ويمكن لمكان ما أن ينظّم أو يشوش أو يستنبت أفكار هذه الشخصية أو تلك في أي رواية. فالبحر هو الذي يشكّل وعي الطروسي وارتباطاته الحياتية في رواية "الشراع والعاصفة" لحنا مينه، والصحراء هي أرض حلمية لشخصيات عبد الرحمن منيف في "مدن الملح" التي يغزوها النفط المستخرج من باطنها.
يرثي عبد الرحمن منيف الصحراء بحرارة، وإذا كان الشاعر العربي المفتون بالأمكنة ينتظر أن يرى الصحراء المفقودة، كأن يسأل كعب بن زهير: أتعرف رسماً بين رهمان فالرقم؟ فإن صحراء منيف ضاعت إلى الأبد، ويمكن بالطبع استخلاص المئات من الأمثلة التي كتبها أصحابها، وحددوا فيها وصفاً ما للمكان قبل ترجمة كتاب باشلار المذكور.
ذكرتُ الكتاب لأن الحديث العربي عن المكان اقتصر في تناوله النقدي للمسألة على جماليات المكان وحدها. الحقيقة أن "الجماليات" استخدمت أحياناً لمحاصرة الروائيين، حين عمد بعض النقاد المتعجلين، (ولست متأكدا من أنهم فعلوا ذلك عن سابق تصميم، أم عن مواقف اعتباطية)، أو بعض مشرفي الصفحات الثقافية، إلى جعل المكان مثل أيقونة. وقد صادرت الصحافة الثقافية المصطلح، في الزمن الذي أعقب ترجمة الكتاب، وحولته إلى معيار قيمي، أو إلى خطاب وعظي.
أما المعيار القيمي فأمكن تأسيسه على أنقاض عصارة الكتاب الفلسفية والفكرية، بينما عُمم الخطاب الوعظي عبر تفريغ المفردة من محتوياتها الدلالية. هل تحتفي بالمكان في رواياتك؟ لماذا أهملت المكان؟ حيث تنهض هذه الأسئلة على افتراضين: الأول أن الأمكنة أليفة بالضرورة. والثاني أنها مقدسة. صار على الروائي أن يقدم خطابا تمجيداً بالمكان، كأنما يمجد وطناً.
لكن ماذا عن وحشة المكان؟ لنقرأ هذا المقطع من رواية صبري موسى "فساد الأمكنة": "فبين الحين والحين تبرز فجأة كومة من العظام البيضاء أو غصن جاف يرفرف في أعلاه قطعة من القماش هي علامات الموت في الصحراء يرقبها نيكولا ويرتجف". هذه هي صحراء الدرهيب في رواية موسى حيث يعيش بطله الوحيد. إنها صورة رهيبة عن صحراء أخرى لا يشتاق لها أحد.
ويمكن أن نعثر على أمكنة لم تعد لها جماليات الألفة، فالمقهى الذي يُحتفى به كمساحة لتبادل الرأي، أو تمضية الوقت السعيد في لعب النرد، قد يكون وكراً للجواسيس في الدولة البوليسية، والشقة التي تشكّل تفكيراً للروائي، قد تكون رمزاً لتقويض الأمان، وهو ما يشير إليه المثل: للحيطان آذان. والحقيقة أن السينما والمطعم والشارع والمراكز الثقافية والمكتبة العامة، وهي أمكنة أليفة، قد أُعطبت تقريباً عبر المراقبة الأمنية لروادها.
في غياب الأماكن الأليفة، حدثني أحد أصدقائي أنهم كانوا يعقدون اجتماعاتهم الحركية أثناء المشي في مضمار ملعب لكرة القدم.