الاغتراب المفضي إلى التجدد، دعوة قديمة جسّدها بيت أبي تمام: "وطول مقام المرء في الحيّ مخلقٌ لديباجتيه فاغترب تتجدد". وفي حالة الفنان، فإن ديباجتيه (العقل والجسد)، تعيشان اغتراباً ضمنياً عن المحيط الذي توجدان فيه، لكنه اغتراب هيغل الذي يقود صاحبه إلى الوعي التعس، وليس اغتراب الشاعر العربي الذي اشترطه لتحقق التجدد.
أمّا المفارقة، فهي أن الأول يودي بصاحبه إلى التوق للثاني. يعيش الفنان جائعاً إلى الانفصال أو حتى الانسحاب المؤقت ممن ومما ينتمي إليه.
قد يكون منشأ فكرة الإقامات الفنية هو تواطؤ الفنانين مع بعضهم وتلبية لنداء النفور داخل كل منهم، فهي في شكلها الحالي ليست إلا امتداداً طبيعياً وتحديثاً لهجران جميل للمكان الأول، والذي اختبره الشعراء والفنانون في كل بقعة وزمن، منذ إقامات المتنبي في حلب وسواها التي لم يكن ليمنح امتيازاتها لولا قصيدته، وصولاً إلى قرية ريلكه "فاربسفيدِه" التي شيّد أول دورها مع صديقه الفنان فوغالار للانعزال والرسم والكتابة، والتي أصبحت واحدة من أشهر أماكن إقامات الأدباء والفنانين حتى اليوم.
علاقة الفنان مع الأماكن الجديدة التي يقصدها يختصرها أبو تمام مرة أخرى، فداعية الاغتراب يعرف أن الألفة قد تكون في موضع الغربة: "كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل"، ومع مضي الوقت يسمح الفنان للنفور أن يخفت وأن تتحول علاقته بالمكان الأول إلى حنين صرف.