يدخل عشرات المهجرين العراقيين إلى مبنى مطرانية الكلدان بحثاً عن المساعدة. في حوزتهم أوراقهم الثبوتية الممهورة بختم الكنيسة الكلدانية في العراق. يحملون في ملفات متهرئة أوراق الملكية لعقارات ومصانع وبيوت يأملون العودة إليها قريباً، بعدما استولى عليها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش". دمرت الأحداث الأمنية ممتلكات الكلدان وهجرت بعضهم، لكنها لم تؤد بهم إلى الهجرة الجماعية كما فعلت "داعش".
الموت أو الهجرة
لا تقتصر أسباب هجرة المسيحيين على أحداث الموصل الأخيرة، بحسب مطران الكلدان في لبنان ميشال قصارجي. يقول: "دفعت موجات العنف الطائفي المتتالية الكلدان إلى مغادرة منازلهم في بغداد والموصل والأقاليم المحيطة بالمحافظة".
ويصل المهجرون إلى لبنان من دون أموال أو أثاث، ويلجؤون إلى كنيستهم بحثاً عن المأوى. ويعدد المطران خيارات المسيحيين العراقيين وهي "الموت أو الهجرة"، وينتابه الغضب عند حديثه عن هجرة مسيحيي المشرق. يشرح أن "الانتقال إلى بلد آخر خيار فردي لمن يريد من أبناء الرعية، أما أن نصبح مجبرين على الهجرة بسبب الانتماء الطائفي والمذهبي فهذا أمر مرفوض في القرن الواحد والعشرين".
ويُحمّل قصارجي مسؤولية ما يحدث لمسيحيي العراق إلى الدول الكبرى والمسلمين، لافتاً إلى أن "تمدّد داعش بهذه السرعة بين لبنان وسورية والعراق، جعلها أشبه بجيش من المرتزقة، ما يحتم على الولايات المتحدة وأوروبا العمل على تجفيف مصادر التمويل لهؤلاء ودعم الحكومة العراقية". كذلك، يطالب قصارجي المسلمين "بالوعي والتحرك، لأن داعش تقتل باسم الإسلام والتنديد وحده لا يكفي". يحذر أيضاً من "خطر الصراع السني ــ الشيعي على الأقليات في المنطقة. فالخطر لن يلحق بالمسيحيين وحدهم، فالأقليات الأخرى كالإيزيديين والتركمان يدفعون ثمن هذا الصراع الذي يجب أن ينتهي".
مساعدات
وتستقبل المطرانية المهجرين بشكل يومي، وتقدم لهم، بحسب قصارجي، المساعدة القانونية. يتم تسجيلهم كلاجئين في الأمم المتحدة، ويحصلون على المواد الغذائية والطبية بانتظار أوراق الهجرة إلى الدول الغربية "التي تستغرق نحو سنتين أو ثلاث". ينهي المطران حديثه وينتقل بنا إلى الطبقة السفلى من مبنى المطرانية. يقول: "هنا نستقبل التبرعات العينية والمادية لإخواننا العراقيين. نقسم المواد الغذائية على أكثر من ألف وثلاثمئة حصة نوزعها شهرياً، كما نقدم مساعدة تعليمية لألف طالب".
دقائق معدودة قضاها المطران في الطبقة السفلى، استقبل خلالها عددا من المتبرعين اللبنانيين. يشارك هؤلاء المطران في قلقهم على مصير مسيحيي العراق، لكنهم لا يغضبون عند سؤالهم عن الهجرة. ترى إحدى السيدات أن "الخيار المنطقي للمسيحيين في العراق هو الهجرة". وتغمز ابنتها الشابة قائلة: "من يحصي الضربات ليس كمن يتلقاها، فليهاجروا ليعيشوا بأمان".
جوازات سفر
يغادر المتبرعون بسياراتهم من البوابة الخلفية، ويستمر المهجرون في التوافد من البوابة الرئيسية سيراً على الأقدام. تدخل سهرة إلى مبنى المطرانية بهدوء. تحيي تمثال السيدة العذراء الماثل عند المدخل باحترام قبل أن تغرق في الكرسي أمام مكتب الرعية. في ذلك المكتب الصغير، يستقبل الأب دنحا اللاجئين، يحدثهم بالآشورية ليطمئنهم. أتى الأب دنحا من كردستان إلى لبنان قبل عامين، لمساعدة المطران في تولي ملف المهجرين العراقيين. يملك جوابا وافيا لكل سؤال عن أحوال المسيحيين العراقيين في لبنان. يقول إن "عامين كاملين من المتابعة كفيلان بحفظ أعداد العائلات الموجودة وأماكن إقامتها وطلباتها".
ويشير دنحا إلى وصول نحو اثني عشر ألف لاجئ مسيحي من العراق إلى لبنان منذ احتلاله عام 2003. دفعتهم الأوضاع السياسية وانعدام الأمن إلى اختيار الهجرة. وصلت بعضهم تهديدات مكتوبة، كسهرة التي اعتادت الانتظار طويلا على الكرسي في صالون المطرانية.
وتكفي كلمات قليلة بصوتها المتعب ليشعر محدثها بثقل الهم الذي تحمله: "أقيم أنا وزوجي العجوز في الغرفة التي سبقنا إليها ولدنا قبل عامين في منطقة البوشرية". لم تأت اليوم لاستلام حصة غذائية، بل للسؤال عن كيفية الاستحصال لبناتها الموجودات في العراق على جوازات سفر، والهجرة.
تجدر الإشارة إلى أن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أعلنت أن "عدد المسيحيين في العراق انخفض من 1.15 مليون شخص إلى 300 ألف شخص، خلال السنوات العشر الأخيرة"، أي أن نحو 850 ألف مسيحي تركوا العراق نحو بلاد جديدة. يُجمع عدد كبير من المهجرين في المطرانية على صعوبة الاستحصال على جواز سفر. "فالوصول إلى مراكز تقديم الجوازات في الموصل يتطلب المرور عبر عدة حواجز لداعش، وهو أمر يعني الموت ذبحاً لا محالة"، يوضح أحد المهجرين الذي رفض الكشف عن اسمه بسبب الخوف على أفراد عائلته العالقين في ضواحي الموصل.
ويحاول المهجر أن يؤمن لهم طريقاً آمناً إلى إقليم كردستان: "إن تمكنوا من الوصول إلى مطار أربيل، يصبح الأمر سهلاً بسبب تعاون السلطات المحلية هناك معنا". وصل كل المهجرين الكلدان إلى لبنان عن طريق الجو، من مطاري بغداد وأربيل بحسب الشماس صباح، الذي وصل وعائلته إلى لبنان مطلع الشهر الحالي بعد رحلة وصفها بالصعبة من الموصل إلى أربيل هرباً من الدولة الإسلامية، قبل أن يستقل الطائرة إلى بيروت. يقول: "لا نعرف الديانة التي يدين بها هؤلاء! لقد كسروا بخاطر الأطياف العراقية كلها، وفرقوا بيننا بعدما تعايشنا لعقود. لم يسلم مسجد ولا مقام ولا حسينية ولا كنيسة ولا مزار من شرهم، فدمروا وأحرقوا وسرقوا، حتى البسمة سرقوها من وجوهنا".
انتهت الجولة في أروقة المطرانية العامرة بقصص المهجرين، وحدها سهرة ظلت على الكرسي. تردد "المسيحيون ورود الشرق، إن انتزعونا سيصبح الشرق بلا عبق". قبل أن تعود لتسأل عن الهجرة إلى فرنسا.
الموت أو الهجرة
لا تقتصر أسباب هجرة المسيحيين على أحداث الموصل الأخيرة، بحسب مطران الكلدان في لبنان ميشال قصارجي. يقول: "دفعت موجات العنف الطائفي المتتالية الكلدان إلى مغادرة منازلهم في بغداد والموصل والأقاليم المحيطة بالمحافظة".
ويصل المهجرون إلى لبنان من دون أموال أو أثاث، ويلجؤون إلى كنيستهم بحثاً عن المأوى. ويعدد المطران خيارات المسيحيين العراقيين وهي "الموت أو الهجرة"، وينتابه الغضب عند حديثه عن هجرة مسيحيي المشرق. يشرح أن "الانتقال إلى بلد آخر خيار فردي لمن يريد من أبناء الرعية، أما أن نصبح مجبرين على الهجرة بسبب الانتماء الطائفي والمذهبي فهذا أمر مرفوض في القرن الواحد والعشرين".
ويُحمّل قصارجي مسؤولية ما يحدث لمسيحيي العراق إلى الدول الكبرى والمسلمين، لافتاً إلى أن "تمدّد داعش بهذه السرعة بين لبنان وسورية والعراق، جعلها أشبه بجيش من المرتزقة، ما يحتم على الولايات المتحدة وأوروبا العمل على تجفيف مصادر التمويل لهؤلاء ودعم الحكومة العراقية". كذلك، يطالب قصارجي المسلمين "بالوعي والتحرك، لأن داعش تقتل باسم الإسلام والتنديد وحده لا يكفي". يحذر أيضاً من "خطر الصراع السني ــ الشيعي على الأقليات في المنطقة. فالخطر لن يلحق بالمسيحيين وحدهم، فالأقليات الأخرى كالإيزيديين والتركمان يدفعون ثمن هذا الصراع الذي يجب أن ينتهي".
مساعدات
وتستقبل المطرانية المهجرين بشكل يومي، وتقدم لهم، بحسب قصارجي، المساعدة القانونية. يتم تسجيلهم كلاجئين في الأمم المتحدة، ويحصلون على المواد الغذائية والطبية بانتظار أوراق الهجرة إلى الدول الغربية "التي تستغرق نحو سنتين أو ثلاث". ينهي المطران حديثه وينتقل بنا إلى الطبقة السفلى من مبنى المطرانية. يقول: "هنا نستقبل التبرعات العينية والمادية لإخواننا العراقيين. نقسم المواد الغذائية على أكثر من ألف وثلاثمئة حصة نوزعها شهرياً، كما نقدم مساعدة تعليمية لألف طالب".
دقائق معدودة قضاها المطران في الطبقة السفلى، استقبل خلالها عددا من المتبرعين اللبنانيين. يشارك هؤلاء المطران في قلقهم على مصير مسيحيي العراق، لكنهم لا يغضبون عند سؤالهم عن الهجرة. ترى إحدى السيدات أن "الخيار المنطقي للمسيحيين في العراق هو الهجرة". وتغمز ابنتها الشابة قائلة: "من يحصي الضربات ليس كمن يتلقاها، فليهاجروا ليعيشوا بأمان".
جوازات سفر
يغادر المتبرعون بسياراتهم من البوابة الخلفية، ويستمر المهجرون في التوافد من البوابة الرئيسية سيراً على الأقدام. تدخل سهرة إلى مبنى المطرانية بهدوء. تحيي تمثال السيدة العذراء الماثل عند المدخل باحترام قبل أن تغرق في الكرسي أمام مكتب الرعية. في ذلك المكتب الصغير، يستقبل الأب دنحا اللاجئين، يحدثهم بالآشورية ليطمئنهم. أتى الأب دنحا من كردستان إلى لبنان قبل عامين، لمساعدة المطران في تولي ملف المهجرين العراقيين. يملك جوابا وافيا لكل سؤال عن أحوال المسيحيين العراقيين في لبنان. يقول إن "عامين كاملين من المتابعة كفيلان بحفظ أعداد العائلات الموجودة وأماكن إقامتها وطلباتها".
ويشير دنحا إلى وصول نحو اثني عشر ألف لاجئ مسيحي من العراق إلى لبنان منذ احتلاله عام 2003. دفعتهم الأوضاع السياسية وانعدام الأمن إلى اختيار الهجرة. وصلت بعضهم تهديدات مكتوبة، كسهرة التي اعتادت الانتظار طويلا على الكرسي في صالون المطرانية.
وتكفي كلمات قليلة بصوتها المتعب ليشعر محدثها بثقل الهم الذي تحمله: "أقيم أنا وزوجي العجوز في الغرفة التي سبقنا إليها ولدنا قبل عامين في منطقة البوشرية". لم تأت اليوم لاستلام حصة غذائية، بل للسؤال عن كيفية الاستحصال لبناتها الموجودات في العراق على جوازات سفر، والهجرة.
ويحاول المهجر أن يؤمن لهم طريقاً آمناً إلى إقليم كردستان: "إن تمكنوا من الوصول إلى مطار أربيل، يصبح الأمر سهلاً بسبب تعاون السلطات المحلية هناك معنا". وصل كل المهجرين الكلدان إلى لبنان عن طريق الجو، من مطاري بغداد وأربيل بحسب الشماس صباح، الذي وصل وعائلته إلى لبنان مطلع الشهر الحالي بعد رحلة وصفها بالصعبة من الموصل إلى أربيل هرباً من الدولة الإسلامية، قبل أن يستقل الطائرة إلى بيروت. يقول: "لا نعرف الديانة التي يدين بها هؤلاء! لقد كسروا بخاطر الأطياف العراقية كلها، وفرقوا بيننا بعدما تعايشنا لعقود. لم يسلم مسجد ولا مقام ولا حسينية ولا كنيسة ولا مزار من شرهم، فدمروا وأحرقوا وسرقوا، حتى البسمة سرقوها من وجوهنا".
انتهت الجولة في أروقة المطرانية العامرة بقصص المهجرين، وحدها سهرة ظلت على الكرسي. تردد "المسيحيون ورود الشرق، إن انتزعونا سيصبح الشرق بلا عبق". قبل أن تعود لتسأل عن الهجرة إلى فرنسا.