فجأة، يعود جهاديّ شاب من سورية إلى أسرته في ريف تونس. يعيش الأب تلك العودة كزلزال، بينما تعتبر الأم الحنونة الحدث عيدًا، فالمهم، بالنسبة إليها، كامنٌ في عودته حيًّا. الباقي تفاصيل. من تلك التفاصيل، أنّ مراهقة سورية حاملًا ترافقه.
هذا في "إخوان" (2018) للتونسية مريم جبور، المُشارك في مسابقة الأفلام القصيرة في الدورة الـ8 (11 - 15 يونيو/ حزيران 2019) لـ"المهرجان المغاربيّ للفيلم بوجدة". فيلم يتناول اللحظة التاريخية بعمق وطرافة. هناك سرد درامي يحتكّ فيه البشر في ما بينهم. يحتكّون ويتصادمون. هذا هو الصراع. نادرًا ما نرى شخصية وحيدة في الكادر. يبدو أنّ ذهاب الشاب إلى سورية ليس للجهاد بل هربًا من بؤسه، ومن عبودية يعيشها في حقل والده. يبدو الدافعُ اقتصاديًّا لا أيديولوجيًا.
في الفيلم أحداث محمَّلة بدلالات. هي ليست أحداثًا ركيكة. أداء الممثل محمد كراية دور الأب عميقٌ، يكشف توترًا وغضبًا شديدًا. الفيلم كلّه مبنيّ على تعارض شديد بين اطمئنان الأم وقلق الأب. لا يعرف الأب كيف يتعامل مع الابن العائد.
في المسابقة نفسها، هناك "أغنية البجعة" للمغربي اليزيد القادري: شاب يمشي دقائق متعددة في المدينة العتيقة. "ترافلينغ" طويل في ممر ضيق. شبابيك تقطع شعاع الضوء إلى مربعات. هندسة معمارية تتحكّم في مواقع مُراقِبٍ يتلصّص، من فوق ومن تحت. معمار يوفّر مواقع رؤية متباينة. تساعد هندسة الفضاء على ضبط الانتقاء الذي يقوم به المخرج.
في النصف الثاني من الفيلم، ينتقل الشاب من وضعية المُلاحِظ إلى وضعية المُشارك. يتصرّف كما يريد، من دون احتكاك. يُلاحظ أنّ خلف الكتل الحجرية القديمة عالمًا متعدّدًا بسحناته وآلاته الموسيقية. هناك تتبّع لتفاصيل الحجر لا لتفاصيل البشر. لا يوجد سرد يجعل الفيلم أشبه بوثائقي عن المعمار التقليدي. الديكور المُصوّر جاهزٌ قبل وصول الكاميرا. لم يصنعه المخرج. النصف الأول جولة في المكان، والنصف الثاني أشبه بـ"فيديو كليب" يعزف فيه الشاب على القيثارة بمهارة، ويندمج في الفرقة الموسيقية. يعزف طويلاً. تنبع الموسيقى التصويرية من داخل المشهد.
الفيلم تجربة واعدة على مستوى أسلوب الإخراج واستخدام مقدمة الكادر وخلفيته. على صعيد المحتوى السرديّ، لا بدّ من حكاية، ومن دراما تتولّد من الاحتكاك بين البشر.
تنطبق هذه المقارنة على الجزائري "سيناباس" لنور الدين زروقي، الذي يجري في فضاء مغلق. فيلم عن الزمن الميت في حياة مُسافرين في حافلة، والحرّ شديد. فيلم عن الملل في جزائر اليوم. كلّ راكب يراقِب ويراقَب، نتيجة الخوف المتبادل. نظرات ضجر وقلق وإرهاق وشبق. نظرات تكشف توترًا وعدوانية، حتّى تجاه عابرين، يراهم الفرد للمرة الأولى. كلّ شخص تتحكّم فيه نظرات الغير، لذا يقمع نفسه كي لا تفترسه العيون.
فجأة، يصعد أعمى إلى الحافلة، ويتصرّف بطلاقة. الحافلة استعارة لحالِ بلدٍ مرعِب. يوحي فتح زجاجة بإعداد قنبلة. يوحي مضغ "شيبس" بإعداد قنبلة. كلّ مضغة تزيد من رعب الركاب. يمضغ الأعمى بصوت مرتفع. وحده الأعمى يتصرّف بحرية، لأنه محصّن ضد نظرات الآخرين. نظرات لا يشعر بها أصلاً.
عندما يتكرّر المضغ، يقلّ التوتر. يتجرّأ راكب فيفتح نافذة البلد على جيرانه، وتظهر ابتسامات. وحده الأعمى يُحرِّر المبصرين من نظرات بعضهم. نظرات لأكثر من 15 دقيقة. حين تكون لدى المخرج فكرة صغيرة جيدة، ويحاول مطّها وإطالتها، يصير مهدَّدًا بقتلها.
كيف ولماذا هذه الاختلافات؟
يُساعد التوطين المكاني والزماني للأحداث في تفسير الاختلاف. لم يعرف المغرب هزّات سياسية واقتصادية وأمنية في الأعوام الأخيرة، بخلاف تونس والجزائر. واضحٌ أنّ هذه الهزات تُجبر السينمائيّ الجزائري والتونسي على إعادة التفكير في وضع بلده ومستقبله. إعادة تفكير تُثمر أجواء صراع ونضال يفتقدها المخرج المغربي.
يبدو أن السياق الاجتماعي في الجزائر وتونس والمغرب يصنع الفرق في تدبير زمن الأفلام ونهاياتها. في المغرب، المستقرّ جدًا، نخبة فنية مرتاحة. لذا، لدى بطل الفيلم المغربي فائضُ زمنٍ يُعفيه من التوتّر.