باختيارها أفلامًا مصرية حديثة الإنتاج، لعرضها في الدورة الـ10 لـ"أيام بيروت السينمائية"، المُقامة بين 29 مارس/آذار و6 إبريل/نيسان 2019، تُؤكّد "جمعية بيروت دي. سي" ـ التي تحتفل بعيدها الـ20 في الوقت نفسه ـ التزامها حيوية التجديد الشبابيّ في مواجهة تحدّيات الراهن. ورغم أن أحد تلك الأفلام (عفاريت الإسفلت) مُنتجٌ عام 1996، فإن اختياره انعكاسٌ لنبضٍ سينمائي تعرفه السينما المصرية في فترات مختلفة، فهو تجربة لمخرجٍ (أسامة فوزي) يرحل باكرًا، بعد إنجازه 4 أفلام روائية طويلة في 13 عامًا.
الاختيار مُثير لمُشاهدة الأفلام أو لإعادة مشاهدتها، في احتفال بيروتي بسينما عربية تطمح إلى تفعيل حضورٍ مختلف، بمواكبتها مسارات اجتماع وأناسٍ في لحظة تحوّل مرتبكة. فالوثائقيان "الحلم البعيد" (2018) للمصري مروان عمارة والألمانية يوهانا دومكي و"أمل" لمحمد صيام يتوغّلان في أحوالٍ ـ فردية وجماعية ـ راهنة، تنبثق من اهتزازٍ يُصيب مجتمعًا وثقافة وسلوكًا، وإنْ يختلف سبب كل هزّة عن الآخر. فالأول يروي، بمزيجٍ يكاد يُخفي الفاصل بين النوعين الوثائقي والروائي، وقائع العيش في المنطقة السياحية شرم الشيخ، بعد العمل الإرهابيّ المُسبِّب لسقوط طائرة روسية في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015؛ والثاني يرافق شابّة تُدعى أمل، راسمًا بعض ملامحها، خلال "ثورة 25 يناير" (2011). أمل راغبة في مواجهة تحدّيات تفرضها الثورة عليها، وتفرضها ثقافة بيئة واجتماع أيضًا. وإذْ ينصرف الأول إلى تفكيك حالات نفسية لشبابٍ يعملون في منتجعات سياحية في مدينة تسكنها الأشباح، فإن الثاني يلتقط ثقافة كسر الخوف في مواجهة شرّ يُريد استعادة مُلكٍ يكاد يضيع منه. وفي مقابل أشباحٍ تُقيم في مدينة منكوبة جرّاء مقتل 224 راكبًا، ما يؤثّر على وضعٍ إنساني واجتماعي واقتصادي، تتصارع أمل مع أشباحٍ عديدة، في السياسة والبلد والمجتمع والعلاقات.
أشباحٌ أخرى تحضر في "ليل خارجي" (2018) لأحمد عبد الله السيّد. أشباح مجتمع يعاني ارتباكات جمّة في العيش والتواصل، ويحاول لملمة أشلائه المبعثرة جرّاء هزائم فردية وضربات جماعية، متأتية كلّها من تلك الثورة الموؤودة نفسها. ورغم ارتكاز النصّ على تجربة شخصية للمخرج، يذهب "ليل خارجي" إلى مسالك أفرادٍ يعانون قسوة اليومي، وبؤس الحياتي، وتعطيل رغبة الابتكار والتحدّي. 3 أشخاص تتناقض أمزجتهم كلّيًا، يجدون أنفسهم معًا في سيارة أجرة واحدة، في ليلة طويلة للغاية، يواجهون فيها مختلف أنواع التحدّيات والأسئلة والمصائر والتفاصيل.
كتحيّة له بعد رحيله في 8 يناير/كانون الثاني 2019، تختار "أيام بيروت السينمائية" أول روائيّ طويل له بعنوان "عفاريت الإسفلت" (1999)، كمحاولة لتبيان تلك التجربة التجديدية في السينما المصرية، الممتدة لاحقًا على 3 أفلام أخرى: "جنّة الشياطين" (1999) و"بحبّ السيما" (2004) و"بالألوان الطبيعية" (2009). ذلك أن أسامة فوزي، المولود في 19 مارس/آذار 1961 ("العربي الجديد"، 11 يناير/كانون الثاني 2019)، ينتمي إلى سينمائيين يريدون تحصين اللغة السينمائية من انهيارات وتشرذمات، فيصنعون عوالم لن تكون أفلامُها كلّها ذات سوية واحدة، رغم تمكّنها من إيجاد مفردات جديدة في قراءة أحوال ومشاعر. فـ"عفاريت الإسفلت" يستلّ حكاياته وفضاءه الاجتماعي من شخصيات منعكسة في واقع مُفكَّك ومرتبك، تسود فيه علاقات غير سليمة، ويكشف نفوسًا وانفعالاتها ورغباتها وشهواتها، في بيئة محطّمة ومحرومة ومقموعة اجتماعيًا وسلوكيًا وتربويًا.
الحيّز المصري في "أيام بيروت السينمائية" دعوة إلى معاينة بعض الجديد، الذي يُثير متعة مُشاهدة ترافقها متعة تأمّل ونقاش.