أفلام قصيرة مغاربية: نساء يواجهن حفاري قبورهنّ

10 اغسطس 2018
من "حب سريع" لشكري روحي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
تتحرّك الطفلة آية بين فضاءين متناقضين: فضاء الكُتّاب الضيّق المظلم في درب خلفي، وفضاء المدرسة العمومية على الشارع. تلبس النقاب الأسود كي لا يظهر أي جزء من جسدها. يسخر منها زملاؤها في المدرسة، مُشبِّهينها بـ"باتمان". يعاني والدها هشاشةً اقتصادية فرضت عليه القبول بنصائح شيوخ السلفية. يحصل على تمويل من أحدهم، ويقبل التجنيد، ويطبِّق الشريعة على زوجته وابنته. هذا لبّ فيلم "آية" للتونسية مفيدة فضيلة، وفيه يقرّر الأب أن تترك ابنته المدرسة لأن فيها اختلاطًا بين الذكور والإناث. كبديل، يتمّ خلق منظومة تعليمية ضد المنظومة التعليمية العمومية، التي تمثّل فرصة للبنات للتوجّه نحو الحداثة. 

يُبرز الفيلم ـ عبر تفاصيل صغيرة ـ كيف تتعارض "الدعشنة" مع مظاهر الحداثة كلّها. تتعرّض الطفلة للعنف، فتحاول الأم أن تكون إسفنجة تمتصّ عنف الأب لحماية ابنتها.
نال الفيلم الجائزة الكبرى وجائزة أفضل سيناريو (مفيدة فضيلة نفسها) في الدورة الـ7 (23 ـ 27 يونيو/ حزيران 2018) لـ"مهرجان الفيلم المغاربي" في وجدة (المغرب)، لأن لجنة التحكيم، النسائية في معظمها، انحازت إلى الموضوع لا الأسلوب. تأثّرت بوضع طفلة في حي شعبي فقير مكتظ يُقمع فيه الجسد والتواصل الحر، وله قانونه الخاص، الذي يفلت من سلطة الدولة الحديثة. هنا، تجري حرب شرسة على شكلِ مستقبلِ تونس بالتركيز على توجيه وجدان الأطفال وتشكيله. تتنازل الأم عن أشياء كثيرة، لكنها لا تقبل أن تترك ابنتها المدرسة العمومية.
تعمل المدرسة القرآنية على تخريج نسخة تونسية من "حركة طالبان" الأفغانية. ليس صدفة أن آلاف الشبان من المنطقة المغاربية التحقوا بـ"داعش". هناك شابات تونسيات أيضًا انتقلن إلى سوريا لخدمة المجاهدين، وعدن إلى بلادهنّ حوامل. هذا يُثبت مدى تجذّر فيلم "آية" في بيئته، وهي بيئة ممتدة حول تونس. ففي الفيلم الليبي "جثة ناجي" لرؤوف بعيو، وهو خطابي أكثر منه سردي، تظهر جثثٌ كثيرة في كل مكان، لكنها لا تحظى بالمساواة، فهناك "جثثنا" و"جثثهم". وحدها جثث حلفائنا تستحق الدفن، أما الأخرى فستلتهمها الغربان.

يندرج الفيلم الموريتاني "أجراس" لمي مصطفى ايخو في هذا السياق الدموي: شاب يشحن نفسه بخطاب خطر. لكلّ مسلم في الجنة حوريتان. هذا أقل شيء. لكل حورية سبعون وصيفة. الحورية حلال والوصيفة حلال. "أجراس" فيلم مؤلَّف من لقطة واحدة عن شخص يزعجه الصوت الآتي إليه من النافذة. فيلم عن الدقائق الأخيرة في حياة إرهابي يستعد لتحقيق حلمه. فيلم فيه حِيَل كثيرة مُنفّذة بتقنية "حاسوب المونتاج"، لكنه غير سردي. فيه بساطة شديدة. لا يختلف عن أفلام سابقة للمخرجة نفسها.

لـ"أجراس" بعد دلالي مزدوج: الإنذار، وجرس الكنيسة الذي يُزعج شابًا مصريًا، فيخرج بحزامه الناسف ليضمن لنفسه ما يكفي من الحوريات. قتل قريبته في الطريق إلى هدفه. يجري الفيلم في مصر. هذا يعطي فكرة عن الوضع في شمال أفريقيا ككل.

هكذا يتعمّق وضع النساء في مواجهة حفاري قبورهنّ. في "السماء تصرخ" للتونسي قيس مجري، يجد سامي وليلى نفسيهما أمام حفاري قبور لديهم أسوأ النوايا تجاههما. يفسر البؤس بقوى شريرة تحكم العالم. قوى غير عقلانية. حين تتوالى النكبات، يبدو العالم عصيًا على الفهم، فيتمّ اللجوء إلى الخيال الفاحش لتفسير ما يجري. لا نرى المطارِدين، بل أثر الشر على الهاربين منه.

تطارد البيئة المغاربية أبناءها حتى شمال البحر المتوسط. في "حب سريع" لشكري روحي، تستعد شابة تونسية في باريس لاستقبال والدها، الذي يجب ألا يجدها عزباء وحيدة، فـ"تستأجر" زوجًا لـ3 أيام، لتقديم صورة أسرة نموذجية سعيدة. أدّت سارة زاهر (فرنسية من أصل مغربي)، دارسة المسرح، الدورَ بحِرَفية. ملامحها دقيقة في التعبير عن الفخّ الذي يجب أن تخرج منه، من دون أن ينتبه والدها إلى "المسرحية الزوجية".

بعد سنّ الـ26، لا تعثر الشابات ـ وهنّ في قمة نضجهنّ الجسدي ـ على أزواج، بل على عشاق مؤقّتين. حين يُقرّر هؤلاء العشاق المغاربيون الزواج، يفضّلون نكاح القاصرات في قراهم الأصلية، لا في ضواحي باريس. وفي شمال أفريقيا، تتقلّص فرص زواج البنت بعد الـ22 من عمرها، إلا إذا كانت مُقيمة في المدينة ولديها عمل محترم ودخل جيّد.
للتخلّص من هذا الوضع، يلجأ "أسرار الرياح" لإيمان الناصيري لوبوس إلى الحلم فرارًا من البشاعة، ومن بذل جهد لتفسيرها أو تجميلها. يعرض الفيلم قصة طفلة تعيش في كوخ مع جدّها الصياد على حافة شاطئ، حيث الطبيعة خلاّبة، تزيدها المؤثّرات البصرية روعة. تمضي الفتاة أيامها في اللعب على الشاطئ. تصغي إلى الريح وغناء الأسماك.

فيلم شاعري يقدّم عوالم حالمة للنساء. الجدّ رجل نموذجي لحفيدته. هي عصفورته. لكن زوجها المستقبلي لن يعاملها بحنان الجد. لن يتركها تلعب، إذْ عليها أن تعجن وتكنس. لا تملك نساء الأحياء الشعبية أجنحة للتحليق بعيدًا عن حفاري قبورهنّ.

هذه أفلام ذات بطولة نسائية، تختلف فيها سمات المكان وأشكال الوجوه واللغة والنظرة إلى العالم، من لغة شعبية يهيمن عليها خطاب ديني إلى لغة فرنسية شاعرية. أفلام (بين 20 و30 دقيقة) فيها حوارات طويلة ونقص كثافة (درامية). يبدو أن "آية" الفيلم الوحيد المُصوَّر في تونس، بينما الأفلام الأخرى مُصوَّرة في دول غربية. يقدّم "أسرار الرياح" تونس مثالية، لأن المخرج مُهاجر يعيش في كندا. هذه عينة من أفلام "دياسبورا" مغاربية تفكّر في أوضاع بلدانها بالكاميرا. لكن، يبدو أن مخرجي المهجر غير متجذّرين كفاية في بلدانهم.

للأسف، لن تُعرض هذه الأفلام في الدورة الـ16 (1 ـ 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان الفيلم المتوسطي القصير بطنجة" (المغرب)، لأن بندًا غريبًا في قانونه يمنع عرض أفلام متوسطية معروضة سابقًا في مهرجان مغربي. هذا قانون مجحف، يعاقب الإبداع.
المساهمون