أفلام إيرانية في فرنسا 2018: تنويعات وتبدّلات

11 يناير 2019
من "استراحة مطلقة" لعبد الرضا كاهاني (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
لا تعطي الأفلام الإيرانية، المعروضة في الصالات الفرنسية خلال عام 2018، فكرة واضحة أو عامة عن السينما الإيرانية. يلزم مهرجان لها لإخراج بعض أفلام الداخل الإيراني، التي لا تجد مكانًا لعرضها في أوروبا. انتهت الفترة التي لم تكن المهرجانات الفرنسية خلالها تستغني عن الفيلم الإيراني. بعضها، كـ"مهرجان نانت للقارات الثلاث"، كان أول من قدّم عباس كياروستامي وأصغر فرهادي. كان يبرمج فيلمين أحيانًا في المسابقة الرسمية، في العقد الأول من الألفية الثالثة. وذلك قبل مرور الأعوام الستة الأخيرة له من دون أن يكون هناك فيلم إيراني في مسابقته. مهرجان آخر مهمّ متخصّص بالسينما الآسيوية في فرنسا، يكتفي بعرض فيلم إيراني واحد في مسابقته الرسمية، وغالبًا لا يرقى إلى ما عهدناه منها. أما مهرجان "كانّ"، فيعرض ـ منذ أعوام ـ لمخرجَين اثنين فقط هما أصغر فرهادي وجعفر بناهي، كأن إيران خلت من غيرهما. 

لهذا أسبابه حاليًا. فأفلام فرهادي مثلاً باتت "عالمية". هو إيراني، لكن سينماه ليست إيرانية. أما بناهي، فمسألة أخرى في ظلّ وجود قرار للسلطة يمنعه عن العمل. لكن المنع ليس منعًا، فهو يربح جوائز، ويرفع اسم إيران عاليًا، وهذا مناسب للأطراف كلّها.

الصالات الفرنسية تقفل، هي ايضًا، أبوابها أمام الفيلم الإيراني. انتهى عام 2018، ولم يُعرض من السينما الإيرانية إلا 7 أفلام، رغم ازدياد الإنتاج السينمائي الإيراني السنوي، ووصوله إلى حدود 200 فيلم. اختيرت فرنسا هنا لأن لها الدور الأكبر في نشر تلك السينما عالميًا، عبر مهرجاناتها وموزّعيها، منذ ثمانينيات القرن الـ20.

لعلّه مخاض جديد للسينما الإيرانية بعد أعوام خصبة، أعطت حصادها في العقد الأول من الألفية الثالثة، قبل أن يخبو وهجها منذ بداية العقد الثاني لغاية اليوم. هناك ما يمور في السينما الإيرانية: بحثٌ عن هوية جديدة، أو حاجة إلى خلع ثوب قديم نادر. هذه بوادر تغيير، ينتبه إليها كلّ مطّلع على سينما الداخل الإيراني، وعلى أفلامٍ معروضة في الصالات الفرنسية في العام المنصرم.

في "مهرجان فجر الدولي" في طهران (إبريل/ نيسان 2018)، لا تزال هناك أفلام حربية وأخرى كوميدية تحصد ما تحصده من إقبال داخلي. الأفلام الاجتماعية الساحرة ـ السائرة على ما سارت عليه السينما الإيرانية لأكثر من عقدين خلال عهد كياروستامي، وتلك التي ميّزها البحث الجمالي وظلّلتها المسحة الشاعرية ـ اختفت. الفيلم الاجتماعي في إيران اليوم منغرسٌ في واقعية صادمة، كما أنه حادّ في طروحاته ونَكْئه جروح المجتمع وكشفه عيوبه، فهو لا يعبأ بالصمت كوسيلة تعبير، بل يريد الكلمة، فالكلمة وحدها تفجّر مكنونات شخصياته. هذا كلّه أثناء بحثه عن أسلوب مختلف في الشكل والسرد.

السينما الإيرانية تبحث أيضًا عن هوية أخرى تضاف إلى الاجتماعي، الذي طالما اشتهرت به، والذي كان ولا يزال موضوعها المفضّل. اليوم، تميل إلى أنواع جديدة، كالأكشن والمغامرات والبوليسي والكوميديا السوداء. النوع الأول يمثّله "العقول الصغيرة الصدئة" لهومن سيدي، الفائز بجائزة الجمهور في مهرجان فجر الوطني (فبراير/ شباط 2018)، والذي حصد مؤخّرًا 6 جوائز من "مهرجان نقاد وكتّاب السينما" في طهران (ديسمبر/ كانون الأول 2018)، أهمها أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل سيناريو. فيلم اجتماعي أكشن، عن عائلة مؤلّفة من 3 إخوة وأخت واحدة، يعيشون في ضواحي طهران. الأخ الأكبر مُسيطر على الجميع، في البيت والحيّ معًا. لديه "مطبخ" لإنتاج المخدرات. لكن هذا لا يمنعه من مراقبة "سلوك" أخته، والحكم عليها بالموت لشكّه بعفافها. يطرح الفيلم مشاكل عديدة، كالجنوح وتعاطي المخدرات والاتجار بها.

في المقابل، يجسد فيلمان، معروضان في الصالات الفرنسية في العام الفائت، التوجهات الجديدة للسينما الإيرانية: "الخنزير" (خوك) لماني حقيقي، السيناريست والممثل المُشارك في 20 فيلمًا، بينها "عن إيلي" لأصغر فرهادي. صُنّف الفيلم على أنه كوميدي، لكنه مختلف طبعًا عن الأفلام الكوميدية التي تقدمها السينما الإيرانية عادة، بمستواه الفني وأسلوبه المتميز: مخرج انتابه الرعب بعد سلسلة أعمال اغتيال استهدفت مخرجين مشهورين في طهران، فتسير يومياته على وقع انتظار المصير نفسه، وعلى تأثّره من تدهور علاقته بنجمة شهيرة (ليلى حاتمي) "صنعها"، لكنها باتت تفضّل عليه مخرجًا آخر أكثر شعبية. يتابع السرد رغبة البطل في البحث عن الأسباب التي جعلت القاتل يتأخّر في اغتياله، ويكاد يحزن لهذا. لكن أمّه، بقوّة شخصيتها وحنانها، تسانده وتساهم في حلّ المشاكل. الفيلم تنافس على الدبّ الذهبي في "برليناله 2018"، وقال حقيقي في مؤتمر صحافي بعد عرضه: "هناك نساء قويات في إيران. اخترت أن أظهر ذلك في مقابل الصورة المعتادة التي تقدِّم لكم النساء الإيرانيات كضحايا". عرف الفيلم استقبالاً لا بأس به في النقد الفرنسي، على خلاف الجمهور المعتاد على سينما إيرانية مغايرة عن تلك، كـ"عرق بارد" لسهيل بيرقي و"استراحة مطلقة" لعبد الرضا كاهاني و"الابنة" لرضا مير كريمي، التي تسرد معاناة المرأة الإيرانية من القوانين والتقاليد (عُرضت كلّها في الصالات الفرنسية عام 2018).

أما "هجوم" لشهرام مكري، المعروض في الصالات الفرنسية أيضًا، فيُبرز توجهًا جديدًا إلى سينما بوليسية وغرائبية: بعد 3 أعوام من الظلام السائد على جزء من الأرض، وبعد بناء حاجز ضد الهجرة غير الشرعية من الظلام، ظهرت أمراض عديدة، وقتل أحدهم في ملعب كرة السلة، واقتادت السلطات مشتبهًا به إلى مسرح الجريمة لإعادة تمثيل الفعل. لكن جريمة أخرى تقع.

إلى تلك الأفلام الـ5، هناك "3 وجوه" لجعفر بناهي و"الجميع يعرفون" لأصغر فرهادي. بالإضافة إلى قادم جديد إلى السوق الفرنسية، متمثّل بأفلامٍ يُخرجها إيرانيون خارج بلدهم، كـ"الساحر" ("دونجوان" يسحر النساء) لميلاد علمي، الذي ولد في إيران، ونشأ في السويد، ولا يزال يقيم في الدنمارك حيث درس السينما وحقّق فيلمه الروائي الأول هذا، الذي يسرد بشكلٍ مقنع ومشوّق سلوك مهاجر إيراني في الغرب، وما يدور في رأسه ورؤوس من يقابلهم في مقره الجديد، والأحكام المسبقة للطرفين. الشخصية حادّة مع نفسها، ومنقسمة بين عالمين أثناء بحثها عن هوية جديدة في حيز جديد، وعن ذكريات مؤلمة ومريحة في آن واحد، وتوهانها في متاهة معنوية ومكانية. هذا كلّه عبر مغامرات رجل يعمل نهارًا في مجال النقل، ويتحوّل إلى "دونجوان" في الليل.
المساهمون