أفكار خاصة برسم التثاقف

09 يونيو 2015
لوحة للفنان العراقي حنوش.
+ الخط -
الحديث عن العمارة لا بُدّ أن يكون ذا شجون، شأنه شأن أي جدل حول الإبداع، وحول الأصالة والمعاصرة. وفي حوار هذا العدد مع الباحث المعماري العراقي خالد السلطاني، تستوقف المرء أفكار كثيرة، أولها فكرة فحواها أن التثاقف كان على مرّ التاريخ وما يزال مسألة أساسية في رقيّ المجتمعات وتقدّمها، وأن من دونه لا تستطيع المجتمعات أن تحلّق بعيداً في فضاء التقدّم حتى لو كانت ثقافتها عظيمة.
ويمكن أن نشتق منها فكرة أخرى مكمّلة تُعدّ ملائمة لكينونتنا الخاصة، مؤداها أن الثقافة عندما تكون عظيمة يُفترض ألا تتملّكها أي خشية إزاء التثاقف بتاتاً، بل على العكس: الثقافة العظيمة تشكل مصدراً أوّل ـ كي لا نقول وحيداً ـ لخشية دفينة مضادة لدى من يسعى للإحلال والإبادة.
وبنقل هذه الفكرة من العام إلى الخاص: قامت فكرة استعمار فلسطين صهيونياً منذ أواخر القرن الـ19 على أساس الإحلال الذي يستلزم من بين أشياء أخرى الإقصاء والتدمير الثقافي. وتدمير الماضي العربي والإسلامي لفلسطين لم يقتصر على الجانب الماديّ فحسب، بل شمل أيضًا الجانب الثقافي (جرى التلميح في الوثائق الإسرائيلية المتعلقة بهذا الجانب بأن الغاية القصوى من وراء هذا التدمير هي أن تكفّ الأرض عن تنّفس جذور الثقافة)، ضمن إطار أوسع هو سعي الحركة الصهيونية إلى اغتيال الهوية الفلسطينية بمدى ما إنها هوية ثقافية بالأساس.

اقرأ أيضاً: الباب الموريسكي

وارتبط هذا التدمير ببرمجة "الذاكرة الجماعية" وتصميمها. وكما أثبت باحثون كثر، شكّل الحيّز المكاني واحداً من أهم حلبات الصراع على شكل ومضمون تصميم الذاكرة الجماعية لطرفي الصراع الإسرائيلي والفلسطيني في شتّى أرجاء فلسطين التاريخية. ولفت أحدهم إلى أنه من الضرورة بمكان التأكيد بداية أن وكلاء تصميم الذاكرة لدى الطرف الصهيوني، أدركوا في وعيهم الكامل بادئ ذي بدء، أن الصراع يرتكز بشكل رئيس على مبدأ "اللعبة الصفرية" الذي يفيد أن أي ربح لطرف يعني خسارة تامّة للطرف الآخر، وأن كل طبقة ذاكرة تُبنى لدعم مطالب مشروعهم الاستيطاني الإحلالي من المفروض أن تأتي لتغطية طبقة من طبقات الذاكرة العربية والفلسطينية المتجذرّة في الأرض.
وبالوسع أن نشير إلى أن مؤسسات و"علوماً" عديدة، في مقدمها "علم الآثار"، تعمل دون كلل على مدار عشرات السنوات في طمس طبقات تاريخ هذه الأرض خلال أغلب القرون السابقة.
وبتنا في الآونة الأخيرة نلحظ أن ثمة اهتماماً متزايداً بالطامة الكبرى التي ألحقتها النكبة بالثقافة الفلسطينية، بما في ذلك ما ترتب على نهب ممتلكات ثقافية مثل الكتب والمكتبات العائدة للفلسطينيين ولا سيما في المدن الرئيسية.
وقد صدر أخيراً بأكثر من لغة، بينها العربية، بحث أكاديمي غير مسبوق حول عملية النهب المبرمجة لكتب الفلسطينيين ومكتباتهم العامرة خلال سنة 1948 وما تلاها، وحول دلالة "تأثيث" بعض أجنحة "المكتبة القومية الصهيونية" بـ"غنائم" عملية النهب هذه.
ويشير البحث على وجه الخصوص إلى أنه حتى أوائل سنة 1949 تم تسليم المكتبة المذكورة نحو ثلاثين ألف كتاب من العرب الذين كانوا يسكنون في القدس الغربية فقط، وهذا من دون حساب عدد الكتب التي جرى نهبها في مناطق أخرى، وخصوصاً في المدن الفلسطينية الكبرى مثل حيفا ويافا.

اقرأ أيضاً: فاتح المدرس، الفنّ بحث مستمر عن الدهشة

بعد ذلك يؤكد البحث أن ثمة أمرين يستحقان التوقّف عندهما، في معرض توضيح كنه المغزى البعيد لهذا النهب: أولاً، أن عملية النهب هذه تجعل كل من يطلّع على وقائعها شاهداً على لحظة تجسّد، بالملموس، الشكل الذي تنبثق فيه "ثقافة دخيلة" ما من رماد ثقافة أخرى أصيلة بعد أن تبيد هذه الأخيرة عن بكرة أبيها. فلحظة تخريب الثقافة الفلسطينية هي اللحظة نفسها لميلاد "وعي إسرائيلي جديد" مؤسّس ليس على محو وجود العرب فقط، وإنما أيضاً على تدمير ثقافتهم العريقة. وبعد تدمير الثقافة يمكن إعادة إنتاج الإدعاء المكرور الذي بموجبه يُقال إن هذه الثقافة لم تكن قائمة في فلسطين مطلقاً، وليس في وسع أي شيء أن يناقض هذا المفهوم أو يفنّده.
ثانيًا، إن عملية السيطرة هذه ونتيجتها التي تحدّدت بـ"تأثيث" بعض أجنحة "المكتبة القومية الصهيونية" تؤشر إلى سيرورة مسخ ثقافة حيّة وديناميكية، كانت مزدهرة في الوسط الحميم لبني البشر، إلى غرض متحفيّ. وبرغم أنه لم يمر وقت طويل إلى أن وجدت غالبية الكتب العربية (المنهوبة) مكانها في محراب الكتب الإسرائيلي، محنطة فوق الرفوف وفي متناول الأيدي، فإنها ظلت فاقدة للحياة أو إلى ما يشي بالحياة بصورة مطلقة.
بيد أنه برسم التثاقف يُحال المرء كذلك إلى أفكار أخرى، قد لا يكون الهضم أبسطها إذا ما استعدنا مقولة كونفوشيوس القائلة إن "العقل كالمعدة، المهم ما تهضمه لا ما تبتلعه". وهذه بالتأكيد قصة أخرى لوقفة مقبلة.
المساهمون