أعطني متعبيك ومساكينك

05 يوليو 2015
عمل "جدار الهروب" لـ كريستو وجانين كلود/ المكسيك
+ الخط -

أربعة رجال يعبرون الصحراء. يتتبعون سبيلاً بالياً حُفر في الرمال الخفيفة إلى الشمال الشرقي، عبر أعمدة صبّار الـ"سجوارو" والشجيرات الواطئة المتمددة على الأرض. يقودهم أنحفهم، بين ظهور واختفاء في الأغصان الصحراوية. يتمايل الثلاثة الآخرون خلفه، بحقائبهم المليئة بالزاد – بعض الأشياء الخاصة، وذكريات ما كانوا ليروها لأحد. تتربع فُرش النوم الملفوفة فوق الحقائب، لتحمي رقابهم من ثُقل الشمس. يعبون بين الحين والآخر من قِرَب الماء المتأرجحة على خصورهم.

عندما اقتربت الشمس من أعلى نقطة لها، حشر الرجال أنفسهم تحت صخرة كبيرة عششت قرب الممر الصخري، وربضوا تحت ظلها الرفيع. هناك، أخرجوا قطع اللحم المقدد، ومضغوا شرائحه بصمت، وشربوا من قِرَبهم، بينما قطع المرشد بعض أوراق الصبّار القريبة، وقشّر – في الظل- قشرتها الخارجية بسكينه، وناول الرجال اللب الأخضر ليأكلوا.

انتظروا مرور أسوأ أوقات النهار حرارة، ليكملوا مسيرهم في الممر الرملي نفسه. انكشفت السماء وازرقت مع تعلّق الشمس أسفلها، بدت الأرض أكثر صلابة تملؤها الزهور الصحراوية البنفسجية، وعادت أجسادهم حارة مع تصاعد الدرب لأعلى التل.

بان في بعد نظرهم شيء يرفرف ويموج كالعلم على الأرضية المسطحة، وتعرّفوا عليه مع اقترابهم، كان رجلاً دبغت الشمس جلده، وتحوّلت ملابسه إلى مزق، وهنت ذراعاه ورجلاه حتى أصبحت كالنقانق. تمكنوا من رؤية عظامه وكأن حيواناً ما افترسه وتخلّى عنها في المكان.

لم تكن زوادة الرجل الميت في المكان، كما خلت جيبه الممزقة التي فتّشها المرشد. فأكملوا المسير.

غطّوا أعينهم من أثر الرمل الخفيف المتطاير في الرياح الحارّة، تشرب الأرض العطشى تعرّق وجوههم الكثيف. كلّما سمعوا صوت محرّك انبطحوا أرضاً منتظرين مرور الصوت.

عند حلول المساء، عثروا على الإشارة؛ صخرة حمراء ضخمة، قمّتها مدببة وعالية. مشوا على إثرها شرقاً، في وضع رؤية أصعب من ذي قبل عبر الشجيرات الواطئة. في منحدر التل دلّهم المرشد إلى بركة ماء ضحلة، فرشقوا وجوههم وهم يئنون.

أكملوا المسير، حجم الشمس يكبر خلفهم في السماء العارية، يمشون نحو الظلام، وكل شيء ساكن.

"إلى هناك" أشار المرشد إلى بقعة بعيدة، بانت مع اقترابهم كوخاً صغيراً بجوانب معدنية. كان الباب غير مقفل، فدخل الرجال فرحين. في الغرفة الوحيدة تعلّقت أربع منصات خشبية، اتخذ كل واحد منهم واحدةً كسرير. فردوا أغطيتهم عليها، متحمسين كأحبّة، متعطشين توّاقين للنوم.

رجفت أجسادهم تحت الأغطية الخفيفة في ليل الصحراء، هبّت رياح منخفضة في الخارج.

نام المهاجرون الثلاث، يقبضون بأيديهم على بضع أوراق نقديّة خضراء.

...

"صباح الخير أيها السادة" صوت أحد ما في الصباح.

صحا الرجال. وجدوا أن مرشدهم قد اختفى، خلا سريره وتعرّى من الأغطية تماماً. طريت نقودهم مع تعرّقهم خلال الليل.

طلب منهم الصوت نفسه أن يخرجوا. واحداً وراء الآخر، وضعوا النقود في جيوبهم، ووقفوا. في الخارج وقف ثلاثة رجال ببنادقهم في ظلّ شاحنة كبيرة مطلية بالأسود، يربط عجلاتها سلاسل.

أقصرهم لوّح بسلاحه اتجاههم.

"قفوا باتجاه الحائط لو سمحتم". قالها وهو يصوّب وزميله أسلحتهما اتجاههم. كان النهار بعد في أوله، والرمل يبرق بلون أزرق. اقترب المسلّح الثالث اتجاههم، يحمل في يده كيساً من الخيش، فيما مرر يده الأخرى يتحسس أجسادهم من الأعلى للأسفل، واضعاً كل ما وجده في حقيبته. كل تركيز المهاجرين الثلاث كانت على الأسلحة، غافلين عن الندوب التي حُفرت على ساعد الرجل الذي يفتّشهم.

بعد أن أفرغ جيوبهم، دخل الرجل ذو الندوب إلى الكوخ، وخرج بحقائبهم معلّقةً بساعديه والأخيرة على ظهره، ورماها داخل الشاحنة.

عاد الرجل نفسه إلى الداخل عائداً بأغطيتهم، نفضها في الهواء وفردها منبسطةً على الأرض فوق بعضها. بصق أحد الرجال "اخلعوا ملابسكم وأحذيتكم، وأبقوا على الملابس التحتانية".

خلع المهاجرون ملابسهم، ورموها مع الأحذية في الأغطية المرمية على الأرض، وعندما انتهوا، لمّ الرجل ذو الندوب مجموع الأشياء في حزمة ووضعها في خلفية الشاحنة. فتح الباب الجانبي للركاب وعاد نحوهم حاملاً ثلاثة أزواج من الأصفاد، وضع الدائرة الباردة في أيديهم اليمنى، تاركاً الثانية مفتوحة ومعلّقة. حرّك المسلّحون المهاجرين باتجاه الشاحنة.

على الحافة الداخلية للشاحنة، صُفّد المهاجرون الثلاثة في حلقة حديدية واحدة، وطُلب منهم الاستلقاء ، فيما كانت الشاحنة رفيعة لتستوعب أطوال أجسادهم، فقرفصوا على ركبهم، معلقين فوق الألواح الخشبية.

دار المحرّك، وسارت الشاحنة، تتلعثم وتنطّ في الطريق نحو الجنوب. في الخلف، كان الرجلان يبكيان، أحدهم صرخ وبدأ يضرب رأسه في جدران الشاحنة الداخلية، يشدّ يده المربوطة بشدّة. مشت الشاحنة لساعات عدّة، تلدغ الشمس أجسادهم العارية، أيديهم اليمنى المعلقة تخدّرت وجفّ الدم فيها.

كانت الدنيا ما تزال نهاراً حين أبطأت الشاحنة السير وتوقّف المحرّك عن العمل. سمع الرجال فتح الأبواب وطرقها. حرر الرجل ذو الندوب المهاجرين الثلاثة من قيودهم، وساعدهم في النزول من الشاحنة. فركوا أيديهم ليعيدوا دورة الدم فيها، وانحنوا أرضاً مرتجفين عاجزين.

وجدوا أنفسهم واقفين أمام بيت خشبيّ صغير وسط تل صحراوي، وعلى بُعد عشرين قدماً يرقد حمام خارجي. قاد المسلحون المهاجرين إلى البيت. في الداخل، من عشرة إلى اثني عشر رجلاً تمددوا على الأرض، كلّهم بلباسهم التحتاني فقط، رُسغهم مصفودة بقضيب حديديّ طويل يلفّ الغرفة، يرتفع ستة أقدام عن الأرض. أحد الرجال بدا ميتاً، جامد عن الحركة والتنفس.

طلب الرجل ذو الندوب من الوافدين الجدد الاستلقاء على الأرض ورفع أيديهم، صفّد اثنين منهم في الجانب الأيمن، وثالثهم إلى اليسار. أخبرهم الرجل القصير أنهم سيبقون في البيت حتى تأتي عائلاتهم لدفع الفدية، وسئلوا عن مكان سكنهم وأسمائهم.

"السعر 5 آلاف بيزوس" قال الرجل "أو أنهم يعتقدون أنكم تسوون أكثر من ذلك؟"

"لا" هزّ الرجل برأسه.

لم يُعطوا أي طعام، فيما مُررت قِربة المياه عليهم بين الحين والآخر، يرفعون هم رؤوسهم ويشربون. كانت الغرفة حارّة ومثقلة برائحة العرق، يحرسها مسلّحٌ يتمركز على كرسيّ قرب الحائط الخلفي. تصاعدت حرارة الغرفة مع مرور اليوم، حتّى أصبحت غير محتملة، رغم اتساع النوافذ المفتوحة، وشبح النسيم الخافت. أربع ساعات، كانت تُسمع أصوات منجرفة في الخارج، وحدها الذبابة السوداء بطنينها الثقيل، تنقضّ على العوارض وأحياناً تهبط على أطرافهم العارية أو أنوفهم. عند المساء، حمل الحرّاس الرجل الميت إلى الخارج، كان المسجونون يلهثون وقتها من شدّة العطش.

عند الغروب، اصطحبوا للخارج واحداً واحد للتبوّل والتغوّط في الصحراء، الحمام الخارجي لم يكن للسجناء. برد الطقس مع اتساع رقعة الظلام، كانت الغرفة مظلمة تماماً، وحده فانوس الحارس الليلي أرسل بريقاً أخضر من الزاوية. رجف السجناء العارون على أرضية الغرفة دون أغطية، ورائحة التوباكو تملأ الغرفة، أعواد ثقاب الحارس تضيء وتطفئ خلف الجدار، تشعّ سيجارته مع نفسه.

...

في الصباح لم يُعطوا أي ماء للشرب، كما لم يخرجوا، أحد الرجال بدأ يهذي مع ارتفاع درجات الحرارة، "حيث لا أسماء للشوارع" بدأ يغني كسكران "إيه.. حيث لا أسماء للشوارع".

"اخرس" تذمّر الحارس الذي بدا نائماً.

"ومعك سأكون شعر الماعز" استكمل الرجل الهاذي غناءه "شعر ماعز معك".

"اصمت" زأر الحارس.

"إيه..." بدأ الرجل غناءه من جديد.

وقف الحارس من جلسته وضرب الرجل الهاذي ضربة بقاع البندقية، تراخى رأسه وتعلّق فوق كتفيه، تعالى صوت نفسه وغلظ صوته، لكنه بدا متماسكاً.

أصبح الجوّ حاراً، تعرّق الرجال بصمت، بعضهم لعق دموعه، تحوّلت ألسنتهم جافة كالرمل في أفواههم. حتّى الحارس كان بائساً، يمسح عرقه عن وجهه، يسبّ، ويصبّ الماء عليه من قربته. لاحقاً، سمعوا الشاحنة تتحرك في الخارج، أحدهم جاء ليريح الحارس، حاملاً معه –أخيراً- جرّة ماء. بلل السجناء أفواههم بالماء الدافئ، بعضهم اختنق وبصق غير قادر على بلعها من شدّة الظمأ. زأرت الشاحنة من جديد لتنطلق بعيداً.

في المساء، أخرج الحارس بعض الأوراق المعدنية من جيبه، وبدأ يأكل الـ"تاكوس" في يديه. أزاح السجناء عيونهم بعيداً محاولين عدم رؤيته، جوعهم منحهم أنوف ذئاب، وزبدت معداتهم. سُمع صوت سيارة في الخارج، قام الحارس من على كرسيه حاملاً سلاحه ونظر من الشباك، ثم عاد إلى مكانه. دخل بعض الرجال بأسلحتهم. "هذا" أشاروا إلى أحد السجناء بأسلحتهم، ففُكّت قيوده، وانقاد إلى الخارج. أزّ محرّك الشاحنة، وتباعد حتّى لم يعد يُسمع.

في الليل كان الهواء بارداً ومنعشاً، سُحِبوا واحداً وراء الآخر إلى الخارج ليريحوا أنفسهم. جثم المهاجرون على الرمل، رجفت أجسادهم تحت ضوء القنديل العظمي، وعادوا إلى الغرفة وانكمشوا قدر استطاعتكم بعضهم على بعض لمزيد من الدفء، ولم يمنعهم الحارس من ذلك.

استفاق السجناء على أصوات رجال يتحدثون في الخارج، وصل حارس جديد بدلاً من الأخير الذي ذهب ليستريح. بعد الظهر جاء بعض الرجال بسجين جديد. كان وحيداً يبكي فوق كفّيه، ربطوه للجدار كباقي السجناء. كان الحارس يسمح في بعض الأوقات أن يرتفع الحديث بين السجناء لأكثر من وشوشة، لكن الصمت كان حاضراً أكثر، تخلله مرّة طلقة نار وضحكات رجال في الخارج.

حتّى هذه اللحظة لم يكن هناك طعام. في الليل سمعت جلبة الشاحنة مرّةً أخرى، وتبدّل الحرّاس. أقلعت الشاحنة، وبقوا مع الحارس الجديد الذي لم يأخذهم إلى الحمام مباشرة، وبدلاً من ذلك خرج من الغرفة، ولفترة طويلة لم يكن هناك من يراقبهم، بعض السجناء طرطق بالأصفاد وحاول الوقوف، لكن لا جدوى. سمعوا خطوات الحارس، الذي عكست ملامح وجهه شيئاً ما، ما أن دخل الغرفة. ضحك بهدوء مع نفسه وأخذ مكانه على كرسيه، رأسه يهتزّ بسعادة، زادت عيناه اتساعاً بوميض فضّي، اهتزّ سلاحه في حضنه.

راقبه الرجال.

"يجب أن نذهب إلى الحمّام" أحد الرجال قال أخيراً، وقد مضى على ذهابهم آخر مرّة وقت طويل.

"نعم" قالها الحارس بلطف، عدّل صوته وصرخ "من قال ذلك؟"

صمت الرجال. أخذهم واحداً واحداً عبر الليل حاملاً القنديل بشعاعه المرتعش، يجثمون هم ليتغوّطوا أو يقفون ليتبوّلوا، بينما هو يتكئ على سلاحه مراقباً. لم يكن قريباً منهم، لكن أحداً لم يحاول الابتعاد عن مدى السلاح. عندما عاد بأحد السجناء إلى الداخل، ربط ساعديه بالأصفاد، لكنه لم يلُح بالسلسلة حول القضيب المثبّت إلى الحائط، تمدد السجين هناك، بساعدين مكبّلين ممدودين، لكن حُرّين. اتسعت عيناه مراقباً في الظلمة.

أخذ الحارس واحداً آخر للخارج. أنصت الرجل المحرر بهدوء، منتظراً. بعد قليل كان كلّ السجناء قد اصطحبوا مع الحارس لقضاء حاجتهم في الخارج، وعادوا إلى أماكنهم. جلس الحارس على مقعده مع الفانوس الصغير، وبدأ بلفّ سيجارة، والسلاح في حضنه. معظم الرجال صفروا بنومهم، بعضهم تمتم بصلوات. والحارس يدخّن سيجارته. "احكوا لي حكاية" صاح الحارس بالسجناء الذين استيقظوا على نباحه، لكنّ أحداً لم يتكلم.

"لا، لا" قال الحارس بينما أشعل عود ثقاب ورماه على الأرض "لا تقولوا أي شيء، لا تتفوّهوا بشيء". لفّ سيجارة أخرى ودخّنها، وأخرى. بعدها، تدلّى رأسه للأسفل، ومازال إبهاماه مرتاحيْن على السيجارة. بدأ يشخر. كان السلاح يجلس أفقياً على فخذيه، بأصبع واحد ملتفّ حول الزناد.

عدّ السجين المحرر مائتي نَفَس، وأنصت لشخير الحارس الذي بدا أعمق مع الوقت. بعدها، وبأسرع ما استطاع، وقف على ساقيه، وبدأ المشي نحو الباب. تفاجأ الأخير بسجين آخر يقف وينضمّ إليه، يرتفع نفسه، يداه مكبلتان لبعضهما، لكنهما محررتان. عيناه متسعتان بالخوف، راجياً الآخر أن يتحرّك بسرعة.

"هاي" صاح أحد السجناء، فركضوا مسرعين من الباب داخل الليل باتجاه الشمال الشرقي، صاعدين تلّاً شديد الانحدار، معاصمهم المصفّدة تنطّ أمامهما، ترنّ السلاسل المتدلية.

سمعا الحارس خلفهما من عند الباب منفجراً بشتائم، فيما بدأ بإطلاق النار، دوّت الطلقات في الصحراء، واستمرّ المهاجران بالركض إذ لم يشعروا بطلقاتٍ تصيبهم، بعدها وصلهم صوت محرّك يعود إلى الحياة، أضاءت مصابيحه الأمامية الطريق إلى يسارهما، وبدا السائق مترنحاً بجنون، يصوّب نحو الضوء - نحوهما- بسلاحه. وصل الرجلان أعلى التل، وبدآ الركض شرقاً. كان القمر مضيئاً، لكن الليل كان أشدّ عتمة. عضّت الأحجار الناتئة والأعشاب الخشنة أقدامهما. وصلت الشاحنة قمّة التل، فانبطح المهاجران أرضاً تفصلهما بضع أقدام. اتفقا على أن يفترقا إذا ما اقترب الحارس نحوهما. اتبع الحارس أبعد نقطة من الشعاع الصادر من الشاحنة نحو الشمال، وبعيداً ذهب. وقفا وعاودا الركض مجدداً، بعدما ابتعدت الشاحنة أكثر، ولم يتوقفا حتى انهار أحدهما. نظر الرجل إلى الجسد اللاهث على الأرض، لم يتوقف عن الركض. أنّ المهاجر المفقود على الأرض وحده. بعد دقائق عدّة، رجع الرجل الآخر الذي غيّر رأيه، مال إلى الأسفل يلمّ رفيقه في العتمة.

قبل بزوغ الخيوط الأولى من النهار أمطرت، عاصفةً صحراويةً نادرة. كانا يضمان بعضهما على الأرض، أحدهما استيقظ وجثا على ركبتيه، هزّ الآخر من كتفه. نفضا نفسيهما وبدآ الركض من جديد.

تاها في الصحراء ثلاثة أيام. كانا يستريحان في الظل خلال النهار، ويمشيان بعد غروب الشمس حين يبرد الجو. تمكنوا من فصل الأصفاد عن بعضها بوضع الجزء الأضعف من السلسلة على صخرة ومهاجمته بحجر ثقيل. شبه عراة، ضربت الشمس جلدهما حتى في الظل، وتشققت شفاههما. أدمت الأعشاب الشائكة – الغير قادرين على تجنبها أثناء السير ليلاً- ساقيهما. وجدا مرة إجاصاً مدفوناً في أيكة صحراوية، قضيا ذلك اليوم كله في خندق يأكلونه. لم يعثرا على مياه، فقط بعض النباتات الصحراوية اليابسة، تعيش كما تعيش العظام.

في اليوم الأخير، كان الرجلان يهذيان، يموتان، يغنيان أغانٍ بأسماء عائلتيهما بلا نغمة محددة. حتى الليل لم يرحهما من الحرارة التي اختزنت وألهبت جسديهما من الداخل. كانا يصعدان تلّاً رملياً عند الغسق، يترنحان كثمليْن، عندما فجأة ترجّا أحدهما الآخر لينصت. في عمق المسافة، لم يكن ممكناً أن يخطئ سمعهما ضوضاء طريق سريع يعلو ويهبط.

بدآ الركض مجدداً، يدفعان بعضهما على ضفة الرمل. الجهة الأخرى من التل في بعد المسافة كان الشارع. بدءا مندفعين الركض نحوه يشهقان بفرح. بعد دقائق عدّة، شعرا ببعده، مازالت تفصلهما عنه أميال عدّة.

أحدهما سقط مرتجفاً في الأوساخ. تمدد أرضاً يأنّ ويرتعش، زبد فقاعات على زاويتي فمه، انقلبت عيناه. مع الوقت عاد للتنفس طبيعياً، لكنه لم يستيقظ.

حاول الآخر أن يوقفه على قدميه، بالكاد وقف الأخير، عيناه نصف مفتوحتان، يئن وجسده محني. بدأ يصرخ ويلوّح بقبضتيه في الهواء، سلاسل الأصفاد المنفصلة تلوح قاتلة، تضرّع الرجل الآخر له، انقضّ عليه ولفّ ساعديه حوله صدره العاري، تحت ضربات ساعديه. مال الرجل المريض على رفيقه، وعرج المهاجران الاثنان باتجاه الشارع.

مالت السماء إلى الأرجواني في الشرق، وبدأ الهواء يبرد. كانا ضعيفين وبلا ملابس في أرضٍ غريبة، اختبؤوا من السيارات المارّة، سائرين على مسافة من الشارع، باتجاه الشرق مع الطريق العام. عندما أظلمت نهائياً، قطعا الشارع، كانت أرضية الرصيف الوجيزة كرحمة تحت أقدامهما. كانا قادرين على رؤية ضوء غَبِش في البعد باتجاه الشمال، وبدءا المشي نحوه مترنحيْن. كان الرجل المريض يقف كل بضع دقائق ليتقيأ. كان يتمتم بشيء لنفسه باستمرار. كان الليل قد حلّ عندما رأيا صفّاً من المنازل على بعد أقل من ميل، خافتةً كوسواس تحت ضوء القمر. عندما رآهم الرجل المريض، اعتدلت قامته ومشى مسرعاً.

لم يأخذهم كثير من الوقت حتى أصبحوا في الحديقة الصحراوية الخلفية للبيوت، حبال الملابس معلّقة بين أسطحها، ملابسهم تدفعها الرياح الباردة. مرّ الرجلان بين مبنيين، مشيا مثقلين إلى الشارع الأمامي. قليل من الأضواء أضاءت غرف المعيشة. كانا ميتين من العطش.

"هذه أريزونا، لا بدّ أنها بيوت الريفيين"

"ماذا؟" صرخ الرجل المريض "أرى أحداً يسير في المكان". لكن أحداً لم يكن.

"شششش!"

كان لأحد البيوت سيارة ألصق على واقي الصدمات عليها: اليسوع. أدرك المهاجر أن المسافر الآخر يموت. صعد إلى الشرفة ودقّ الباب. جثا المريض على ركبتيه في الساحة الأمامية وتقيأ.

فُتح الباب. سيدة بيضاء وقفت هناك بمنامتها. رأت المهاجر بنيّ البشرة على شرفتها عارياً مشقق مدمى القدمين، تتدلى سلاسل الأصفاد من رسغيه. صرخت بشيء ما وصفقت الباب.

نزل المهاجر من على الشرفة، وبدأ البحث عن حنفية بجانب المنزل.

خرج رجل أبيض ملتحٍ طويل من المنزل بغضب، يحمل في يدٍ بندقية، وفي اليد الأخرى مضرب "بيسبول" برأسٍ مسماريّ. كان يصرخ. التفّ المهاجر ليركض، وانطلقت رصاصة من البندقية وتمكّن الراكض من أن يسمع صندوق البريد يسقط عن يمينه. ظلّ يركض. كانت الأضواء تشعل في البيوت المحيطة. عوا القمر محذّراً. لم يستطع توفير نظرة خلفية على الرجل الساقط على الأرض. ركض فقط، مستمراً باستقامة وبخفّة عبر الحشائش الصحراوية. بحث عن شيء ليلحق أثره. من بعيد رأى تلّاً يعلوه شجر، وخلفه أضواء واهنة.



* Joe Fassler كاتب أميركي

* ترجمة عن الإنجليزية مي كالوتي

المساهمون