20 يونيو 2022
أصيل أحمد أغبش وثورة الإصلاح الوطنية
ظل التاريخ الحديث لتشاد ما بعد الاستقلال مخدراً بالحركات الثورية والانقلابات التي وَلّدت الكثير من الأحداث المشحونة بالمصالح والتصادمات في مواجهة هذه الحركات الثورية، لكي تخلف كثيراً من الأسئلة العالقة حتى الآن في مسائل منسية منذ مطلع الستينيات وحتى اللحظة.
ذهب من ذهب من الرعيل الأول لجيل النضال الثوري، مات الأب الروحي لحركة فرولينا إبراهيم ابتشه في حادث غامض، تبعه في ذلك البقلاني مفجر تاريخ الحراك الثوري وصاحب نشيد بقرآني وإيماني.
ثم توالت الاغتيالات داخل حكومات تحركها التدخلات الخارجية وتسير في تسوية الخلافات بإملاءات لم توقف نزيف الموت، لكي تخلق بدائل لتركيع البلد في صورتها المنهارة اقتصادياً، والمنفلتة أمنياً، والمتشظية سياسياً، والمنقسمة حول نفسها، بينما ظل نسيجها الاجتماعي مرهوناً بالتكتلات وغيرها.
هذه لمحات صار فيها الاستعمار يحرك مصالحه عبر عملائه، وليبيا الجار الذي يصطحب حقائبه لإشعال فتيل حرب يستثمر فيها لكي يضم الشريط الحدودي الذي يربط بين حدود البلدين، فيما السودان يخلق بدائل بعيدة كل البعد عن الطرح الليبي وغيره، بهذا تحولت تشاد لساحة قتال تجتمع فيها جميع الأطراف المتنازعة والمسلحة لتبدأ سيناريوهات لحروب جاوزت النصف قرن من الزمان، بعد أن انفلت الرئيس التشادي الأول فرنسوا تنمبلباي ليشكل نموذج المتمرد على أسياده، بعد أن غيّر الكثير من مواقفه، فأصبح أقرب إلى العميل المارق من سهم الحقيقة لصانعيه، بدّل اسمه ومنطقته إلى أسماء لا تُرضي المستعمر في بيئة حسمت فيها فرنسا جميع الاحتمالات بأنها صارت تدين بدينها وثقافتها، ثم جاء تاريخ ما بعد 1975، لتكون تشاد أمام المواجهة الحقيقية والانقسامات في المواقف وتضارب المصالح والطموحات، تفرعت فروليا إلى حركات ولدت بداخلها الكثير من الجماعات المنقسمة، والزعامات المتعددة، المنفتحة نحو الفرص وتحقيق مآرب استظلت بفترات خامدة.
في هذه الأجواء، برز نجم أصيل أحمد أغبش المنحدر من الوسط التشادي القادم من حكومة تنمبلباي، بعد أن شغل العديد من المناصب فيها، آخرها نائب برلماني، ذو التكوين الفرنسي والملامح الشرقية والإسلامية، انسلخ أصيل كثيراً أصيل عن أقرانه وظل يركِّب واقعه بناء على بيئة يقرب فيها الكثير من وجهات النظر.
بعد انقلاب 1975 هرب أصيل ومعه العديد من القيادات العسكرية عبر الحدود النيجيرية ليصلوا إلى الجماهيرية، بعد أن عانوا ما عانوا من مساءلات وتحقيقات وسجن من الحكومة النيجيرية، وصل الرجل وانضم إلى حركة البركان التي كان يتزعمها محمد البقلاني، وبعد أن طاولت الشكوك أصيل من المنضوين في الحركة بأنه عميل ومخبر، قطع الرجل الشكوك التي ينظر بها من حوله إليه وأدى القسم للبقلاني.
بعدها مات هذا الأخير في ظروف غامضة وظلت الحركة بدون قيادة فاستغل ولد أحمد هذه الأجواء وقاد الجماعة إلى أن أصبحت مع الزمن المجلس الديمقراطي الثوري (C.D.R)، ظل البركان الجديد النواة الأولى لهيكلة المجلس الديمقراطي الثوري وضم أكثر من 52 جندياً تم تدريبهم في معسكرات "جدايم" بالزواية.
قام المجلس الديمقراطي على مجموعة من الأسس والمبادئ، على رأسها الكفاح بكل الوسائل لقلب نظام الحكم القائم، وجلاء كل القواعد والجيوش الأجنبية المتمركزة في تشاد، وتأسيس حكومة قومية وطنية ديمقراطية وشعبية تحقق طموحات أبناء الوطن الواحد.
شارك المجلس الديمقراطي الثوري بقيادة أصيل في العديد من مؤتمرات الصلح الوطني وكافح ولد أحمد لكي يعيش الأجواء الوطنية المتشظية ويفرض ما يؤمن به وما يمليه عليه ضميره، وقد واجه الرجل العديد من الصعوبات في ظل الأحداث السياسية المتحركة ككثبان الرمل في تحقيق شيء من تقارب وجهات النظر، وجاءت الخلافات الداخلية بين أصيل وأحد قيادات المجلس، وهو الخلاف الذي سببته ليبيا بين أصيل ورخيص مناني ودام مدة طويلة، والمشاكل التي أرادت زرعها فرنسا لأصيل مع عدد من الحركات المسلحة وقتها، ولجأ أصيل للخروج من تلك الأجواء الموبوءة إلى تحالف مع عدد من الحركات.
أول تلك التحالفات التي عاشها المجلس الديمقراطي الثوري بعد سقوط فايا لارجو في 11 فبراير/ شباط عام 1978، ليجد أصيل نفسه في تحالف ضم العديد من الفصائل الثورية؛ الجيش الثاني بقيادة قوكوني، والبركان لأصيل، وقوات التحرير الشعبية الجيش الأول بقيادة محمد أبا سعيد، وشغل أصيل في حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة من مؤتمر لوغاس منصب وزير الخارجية منذ 1979 إلى 1982.
أصيل والرحيل الغامض وموت البعير
اكتنف أحداث موت أصيل كثير من الملابسات والمغالطات وتعددت الآراء ووجهات النظر حول موته، إذ تقول الرواية المتداولة في الأوساط الشعبية إن الطائرة التي تقل أصيل عندما هبطت وأراد النزول سقط حذاؤه بسبب الرياح، وعندما التقطه ورفع رأسه كانت مروحة الطائرة دائرة لذا ضربته في رأسه، وهناك آراء تقول إنه قتل بمسدس كاتم للصوت وجيء به إلى مدينة لاي، ومع هبوط الطائرة رموه، ولا نأخذ بصحة هذه الرواية لأنها ضعيفة.
كثير من الشكوك في الأوساط السياسية تشير إلى أن لموت الرجل علاقة بزياراته الأخيرة قبل موته بثلاثة أيام، وهي زياراته المتكررة إلى ليبيا وألمانيا والكاميرون، والاجتماعات الأخيرة التي رفعت فيها الأصوات وخرجت النتائج غير مطمئنة، وعاد المرحوم أصيل إلى جيشه المتمركز في مدينة لاي لمناقشة كثير من القضايا.
ولهذا ما تزال الكثير الأسئلة عالقة في تلك الأجواء العسكرية وصراعاتها المتعددة كبؤر تحفر، وأجندات تحاك ضد تلك الزعامات المشهود لها بالمواقف؛ فما هي نتائج التقرير حول موت قائد بحجم أصيل؟ وأين تقف الحقيقة في كل ما يقال؟ ولماذا تتحفظ بعض القيادات العسكرية والسياسية التي كانت شاهدة لموت الرجل، ولم تفصح، ولو بكلمة، في طرح الموضوع وإعادة حقيقته للأذهان؟ أين تقف الشكوك في اتهام رجل ككاموغي موبوء بالاغتيالات والخيانات؟ وما هي صحة الوقوف عند الاحتمالات التي تقول بأن حسين هابري هو طابخ الاغتيال البارد؟ وأين فرنسا وليبيا من كل هذا؟
إنها أسئلة مرهونة بالتكهّنات المنسية في أغلفة الأزمنة الغامضة؟ وإلى متى ننتظر فتح تلك الحقيقة المتباينة بتقارير استخباراتية كاذبة؟ ومن مات غير أصيل في تلك الطائرة؟ إذا كان وحده، فأين الحرس الذي يرافقه؟ وإذا كان نعم فهناك بعض الأسماء التي فقدت مع الرجل، إذ كيف نصدق كل هذه الترهات وإن تعددت الأقاويل؟ وكيف يُنسى حدث بهذا الحجم ويتلاشى من الذاكرة الوطنية؟
وما تزال شكوكنا قائمة إلى أن تثبت لنا الأيام غير ما تقول فنسكت مع الذين التزموا الصمت ما يقارب الأربعة عقود من الزمن.