أصواتهم التي كانت تأتيني عبر الراديو

21 يناير 2015
كنت أرى القصة عبر الأذن (Getty)
+ الخط -
لم أشأ أن تفوتني الحلقة الرياضية الإذاعية. تعمّدت المداخلة في الحلقة دفاعاً عن فريقي المفضل. أثارت مشاركتي ضحكة صديقتي التي لم تتوقع مني المداخلة بهذه الحماسة. لم يكن الأمر مجرد مداخلة. فقصتي مع الإذاعات بدأت منذ زمن طويل، تحديداً مع الفنانة المصرية زوزو نبيل.

كانت القذائف العشوائية تدك أحياء بيروت خلال الحرب الأهلية. كنا نفترش الأرض في بهو المبنى بالشراكة مع الجيران. كل منّا يحاول النوم على طريقته، متناسياً خوفه. تكرّر هذا الأمر حتى اكتشفت طريقة "انشل" بها جهاز المذياع الخاص بأبي. أتلحف بغطاء النوم، وأسحب الجهاز بهدوء شديد، أعدّل الموجة على الإذاعة المصرية، ثم أنام على وقع كلمات زوزو نبيل، وهي تسرد قصة جديدة من برنامجها الشهير "ألف ليلة وليلة".

عوّضت البرامج الاذاعية التي استمعت إليها خلال الحرب، القراءة المفترضة لصبي في الثانية من عمره. انقطاع الكهرباء لوقت طويل حال دون إمكانية قراءة القصص. كان السرد الصوتي أكثر ما يجذبني إلى متابعتها بعيداً عن وقع القذائف. أتاحت لي سماعات الصوت عزل ضجيج الحرب عن هواياتي المفضلة.

حتى بعد انتهاء الحرب، بقيت أفضل سماع القصص على قراءتها. يدفعني الإخراج الإذاعي الناجح إلى أن أعيش أجواء القصة. كل شيء في القصة، كنت أراه عبر الأذن. صوت الرعد ووقع المطر. رأيت جان فالجان بطل رواية البؤساء الشهيرة في أذني، وسكين جاك السفاح، حتى القدم الخشبية للقبطان سيلفر. تحيا القصص في المخيلة عبر الصوت والأذن قبل العين.

شدّة تعلّقي بالبرامج الإذاعية مكّنتني من الحصول على النجمة الذهبية الأولى في الإلقاء الشعري. يعود الفضل لبرنامج الأديب والشاعر جورج جرداق "على طريقتي".
حكمت وهبي، من الأسماء التي شدّتني إلى العالم الإذاعي.

أميغو، كما كان يُلقب. رحل باكراً في سن الأربعين، بعد إصابته بمرض السرطان. صوت أميغو عاش أكثر منه. ذاك الوقع اللطيف الهادىء في الحنجرة يُعد متعةً إضافية إلى جانب المواضيع التي يطرحها.

بالعودة إلى الإذاعة المصرية، فقد واكبتُ برنامج "كلمتين وبس" للفنان فؤاد المهندس. جدتي كانت سبباً في شغفي لمواضيع المهندس. البرنامج الذي يحمل في أقل من 3 دقائق حكمة بطريقة الفنان المصري جعلني صديق جدتي في صباحاتها. نتحلق حول منقل الفحم خاصتها، نرصّ تبغ النرجيلة وننتظر الكلمتين وبس.

تغيّر حال الإذاعات كثيراً. اجتاحت الإعلانات التجارية موجاتها تماماً. تحوّلت الإذاعات إلى أبواق، كأبواق بائعي الخضار في السوق. لكن سوق الإذاعات لا يقتصر على الخضار، كل شيء فيها تحول إلى سلعة، وكل ما يبث هو لترويج تلك السلع. فنانة، مطربة، نجم، أغنية هابطة، شاعر صاعد، شاعر معتزل، محلل سياسي.

تركت جهاز الراديو في مكتبة والدي المتوفي، لكنني لم أترك زوزو نبيل وفؤاد المهندس وغيرهم. تركت الراديو وتبعت أصواتهم إلى اليوتيوب الآن.
المساهمون