أشياؤه الصغرى تعذبها ولا مؤاخذة (2 - 2)

29 نوفمبر 2018
+ الخط -
لم ينتظر صديقنا المهووس بالرقابة العشاء والذي منه، حتى يدخل في صلب حديثه المُرتقب، الذي بدأه بمقدمة تاريخية تأصيلية عن الأغاني التي شاعت وانتشرت في مصر في القرن التاسع عشر وحتى مطلع ثلاثينات القرن العشرين، مثل "خدني بين جيوبك بقى.. بين النهود والمنطقة" و"أبيع حياتي عشان بوسة من خدك الحلو يا ملبن"، وغيرها من الأغاني التي أصر على وصفها بالبذيئة وأصررت على وصفها بالشعبية، وقبل أن يحتدم النقاش، تدخل صديقنا المضيف ليقول إن هذه المرحلة انتهت على كل حال بظهور أم كلثوم وعبد الوهاب، ليدخل الغناء المصري على أيديهما مرحلة جديدة، وقبل أن أرد عليه بأن ذلك لم يكن كله حسنات بل كان له سيئات أيضاً، فوجئنا بصديقنا الرقيب يصرخ بحماس قائلاً: "معلهش بقى أم كلثوم ماشي ولو إن لي عليها تحفظات، لكن عبد الوهاب بالذات لأ، ده عبد الوهاب عمل كوارث في السكة دي هو وعبد الحليم ونجاة، وما حدش داس لهم على طرف، وده اللي خلاني أتعاطف معاك برغم اختلافنا، ولعلمك ده موضوع مقالة باكتبه دلوقتي وهابعتهالك عشان تنشرها".

وحين قلت له مداعباً إن نشر مقالة تقوم بالتخبيط في عبد الوهاب وعبد الحليم لن يكون سهلاً في ظل ارتفاع موجات زمن الحنين إلى الفن الجميل، وأنه سيكون من الأسهل نشر مقالة تهاجم أحمد عرابي وسعد زغلول، عن نشر مقالة تهاجم عبد الوهاب وعبد الحليم، فوجئت بأن حماسه للحديث في هذا الموضوع زاد، وتطاير الشرر من عينيه وهو يذم هذا الزمن المتخلف الذي يتيح التطاول على العمالقة ويقوم بتخليد الأقزام، ثم يتبع كلامه بخبطة على الطاولة القريبة منه، قائلاً إن الوقت قد حان لفتح الملفات المسكوت عنها في تاريخ الفن، لنبدأ بمحاسبة عبد الوهاب وعبد الحليم ونجاة وغيرهم ممن نصفهم بالعمالقة على ما قاموا بغنائه من بذاءات خارجة ومسفة، لا أن نتشطر على الصغار، وكنت أخشى أن يضيف "والأقزام" فيكون ذلك تجريحاً مباشراً في شخصي السمين، لكنه لم يفعل، فقررت أن أطلب منه توضيح كلامه أكثر، خاصة وأن حدة كلامه وسخونة أدائه جعلتني أشعر أنه عثر على شرائط تحتوي على أغنيات جنسية سرية غناها عبد الحليم وعبد الوهاب ونجاة، فأغضبه ذلك كل هذا الغضب.

وحين ضرب لنا أول أمثلته، وبدت لنا طبيعة "التويست" الذي دخلناه، بدا أن أصعب ما سأواجهه أنا وصديقنا المضيف خلال تلك الجلسة "الليلاء"، هو كتم الضحك والتظاهر بالجدية، لكي لا يقوم بقذفنا وسط نوبة حماسه بطبق أو كوبّاية، وهو ما نجحنا فيه ولكن إلى حين، خاصة أن الكلام بدا محتملاً حين ضرب في البدء مثلاً على الأغاني المسفة البذيئة بأغنية عبد الوهاب الشهيرة التي يقول فيها من أشعار أحمد شوقي: "ودخلتُ في فرعين نيلكِ والدجى.. ولثمتُ كالصبح المبيّن فاكي.. وتعطلت لغة الكلام ولامست عيناي في لغة الهوى عيناكي"، مردفاً استشهاده بقوله: "يا نهار اسود.. بقى دي قصيدة محترمة زي ما الكل بيتعامل معاها.. دي فيلم سيكس.. واحنا اللي زعلانين من شوية كلام أهبل وسايبين أس البلاء.. طب كلام زي اللي في أفلامكم المهببة ده مين اللي بيسمعه أصلاً.. مش شوية العيال السرسجية اللي أخلاقها بايظة أصلاً، إنما الأخطر هو الكلام اللي من النوع ده اللي بيتوصف للشباب على إنه المثل الأعلى في الفن"، وحين قرر صديقنا المضيف العابث نكشه أكثر بالتنبيه إلى أن من كتب ذلك الكلام هو أمير الشعراء أحمد بك شوقي شخصياً، عاد صديقنا لضرب الترابيزة من جديد، صارخاً بأنه لا يخاف من أمير ولا من وزير، وأن الأمير أمير بأخلاقه وأدبه، وليس بكتابة كلام فاحش، يصف العملية الجنسية بألفاظ فصيحة تمر على الجهلاء الذين يهزون رأسهم طرباً، ثم يقومون بالهجوم على الأغاني التي توجد فيها ألفاظ عامية، بدلاً من أن يقوموا بتوحيد المبدأ، فيطلبوا بالمثل منع أغنية رقيعة مثل هذه لعبد الوهاب، أو حذف الأبيات الإباحية الواردة فيها.

كان من العبث أن يدور أي حوار جاد بعد هذه النقطة، لذلك قررت أنا وصديقنا المضيف ـ في اتفاق جرى بمجرد النظر ـ أن نقوم بتطوير أداءنا في اللعبة، ليسأله صديقنا بتشكك عن ما يقصده بالأبيات الإباحية، لأنه لم يجد شيئاً معيباً سوى في الحديث عن القبلة أو لثم الفاه، لأتسلم منه الكرة فأقول له أن رده هذا يؤكد كلام صديقنا، لأن السيكس الوارد في القصيدة يدور كله في منطقة غير منطقة لثم الفاه، وحين تصنع الاستعباط متسائلاً عما نقصده، طلبت من صديقنا أن يشرح له بالتفصيل لأنه لا حياء في الشعر والنقد، فسأله بضيق: "تقدر تقول لي يعني إيه دخلت في فرعين نيلك والدجى"، فرد صديقنا متصنعاً البراءة ببراعة: "يعني فرعين النيل بتوع دمياط ورشيد، والدجى اللي هو الليل، هل يقصد مثلا إنه ركب مركب بالليل وما بقاش عارف يدخل أنهي فرع، فرع رشيد ولا فرع دمياط"، ليجن جنون صديقنا ويهب من كرسيه واقفاً، ويقوم بفتح رجليه ويبدأ في تحريك يديه بإشارات بذيئة وهو يصرخ بغضب: "يابني بطل عبط، فرعين نيلك، آدي فرع وآدي فرع، وآدي دخلت، يبقى مركب إيه، ده يبقى ركوب مش مركب".

استمر صديقنا المضيف في الاستعباط ببراعة يستحق عليها الأوسكار متسائلاً بذهول: "يا نهار اسود، عمري ما فكرت فيها كده، طب والدجى، إيه علاقة الدجى بالموضوع"، فيرد عليه غاضباً من بلاهته: "وهو يعني الركوب ودخول الفرعين ده مش بيبقى في الدجى"، لألتقط منه الخيط وأقول: "مش عايز أدخل في النوايا، بس الشعراء يتبعهم الغاوون، عشان كده ممكن يبقى المقصود بالدجى الشعر اللي بيبقى في السبيشيال إيريا، بما إنه قبل كده جاب سيرة الفرعين، ما تنساش إن أحمد شوقي سافر بره وعاش بره كتير وهناك مش بيحبوا يشيلوا الشعر اللي في الأماكن دي"، وفي حين كاد صديقنا المضيفي توفى من فرط مسك الضحك، كان صديقنا ينظر لي بذهول وكأنني اكتشفت إعجازاً لغوياً، قبل أن يهتف: "صح كده، تصدق كده المعنى أضبط وألعن، شفت بقى اللي باقولك عليه، ويرجع يقولك أمير الشعراء، وطبعا لما عدت وفاتت على الكل، جه عبد الوهاب بعدها وقام ملحن لعبد الحليم مسخرة تانية من كلام كمال الشناوي بيقول فيها: تباعدت وتدانت كإصبعين في كفي".

لم نكن من البلاهة بحيث نقطع تدفق أفكاره، بتنبيهه إلى الفرق بين الشاعر كامل الشناوي والممثل كمال الشناوي، لنقوم بتقليد الصوت الذي كان يصدره من شفاهه المزمومة كلما سمع كلمة يراها "أبيحة"، ثم نعيد ترديد العبارة بتمهل، ليقوم بالتعلية علينا بشكل مفاجئ، حيث اصطنع دائرة بيده اليسرى ووضع فيها اصبعه اليمنى، وقام بإدخاله في الدائرة ونحن نردد العبارة، وعيونه تنظر إلينا بجذل من أدرك الحقيقة التي غابت عن الكثيرين، وهنا كاد التجويد أن يفسد اندماجنا في الدور، حين قلت له متصنعاً الذهول: "يا نهار اسود، على كده تفتكر أم كلثوم كانت تقصد حاجة أبيحة لما غنت: وصلتني للحال ده بإيدك"، لينفجر صديقنا المضيف في الضحك، فأوقن أن صديقنا سيدرك الآن لا محالة تخابثنا عليه منذ البداية، ولذلك سيغادر المكان غاضباً، لكنه فاجأني بتأمل ما قلته بهدوء، قبل أن يضيف بجدية: "مش متأكد، محتاج أرجع لسياق الأغنية، عموماً أم كلثوم إما بتناور بذكاء أو إنها بريئة، وما تنساش إنها فلاحة أصيلة، وعارفة خطورة الدخول في المناطق دي، لكن عبد الوهاب قاهري تربية حواري وبعد كده تربية قصور، فأكيد أخد أسوأ ما في المنطقتين، وبعدين الحكاية ثابتة عليه أهوه، فرعين ودجى وإصبعين في كفي، ده غير إن كل ده كوم وشبكة الآداب اللي عاملها مع نجاة ونزار قباني دي كوم تاني".

كان صديقنا المضيف قد سارع بالخروج متحججاً بالذهاب إلى الحمام، ليستحلف صديقي بألا يكمل حديثه إلا حين يعود، وكنت أعرف أنه لم يذهب لقضاء حاجته، بل لتخفيف ما ينوء بحمله من ضحك مكبوت، ليظل صديقنا الرقيب حتى عودته في حالة تأمل لعبارة "وصلتني للحال دي بإيدك"، طالباً مني استرجاع كلمات الأغنية من مطلعها، لعل السياق يتضح أكثر، ليأتيني الفرج بعد عودة صديقنا الذي ارتاح قليلاً من مسك الضحك، وعاد ليستأنف دوره في اللعبة، بادئاً بالسؤال عن ما كان يقصده صديقنا بشبكة الآداب الوهابية، ليتضح أنه كان يقصد بها أغنية (ماذا اقول له لو جاء يسألني) من كلمات الشاعر الكبير نزار قباني، لنقول له بجدية فعلية هذه المرة، إنها أغنية رومانسية لا دخل لها بالآداب ولا بالموبقات، فيقسم لنا أننا لم نستمع إليها من قبل، وأننا مثل حالاته كنا نمر مرور الكرام على القصائد التي ينتجها من نطلق عليهم الكبار، لأنه لم يكن لدينا "طقطان" للاستماع إليها لوقت طويل، فنكتفي منها بالمطلع أو بما يعبر علينا من كوبليهات، ونحن نقلب في موجات الراديو، الذي لم تعد مثل هذه القصائد تذاع إلا عليه، بعد أن صار عرضها على شاشة التلفزيون من المستحيلات.

لذلك ولذلك كله، لم ينتبه هو مثلاً من قبل إلى كل هذه الفضائح، لأنه كان منشغلاً بالتركيز على المساكين من الفنانين المجايلين لنا، ولولا إن عروسته اتضح أنها من مدمني الاستماع إلى إذاعة الأغاني في سهراتها المطولة، ولولا أنه تظاهر بأنه يعرف كل تلك الأغاني والقصائد التي تعشقها، لكي لا يظهر بمظهر الجاهل، وقد سبق له أن قام بتصدير صورة المثقف العميق، لما اضطر إلى كتم انفعالاته وهو يستمع إلى تلك السفالات بشكل أصابه بالقهر والحزن على بلادنا التي إن سرق فيها الفقير سجنوه، وإن سرق فيها الكبير منحوه أرفع الأوسمة، وقبل أن يكمل كلامه المفعم بالشجن عن خطورة التفريق بين أمير الشعراء وحقير الأدباء في المعاملة، استوقفت رغيه، وطلبت منه العودة إلى القصيدة التي اعترفنا أننا لم نستمع إليها كاملة من قبل، ليشرح لنا لماذا وصفها بذلك الوصف المشين الذي ربما كان فيه بعض المبالغة.

بدأ صديقنا الحديث بالدفاع عن نفسه، قائلاً إن اتهامه بالمبالغة سيسقط حين نعرف أن هذه أول وآخر أغنية تحكي على الملأ عن مشكلة جنسية بحتة تسببت في إنهاء قصة حب، لدرجة أن بطلة القصة كسرت بسبب تلك المشكلة "كئوس الحب من زمن"، ومع أننا كمستمعين لا نعرف هل تتحدث بطلة الأغنية عن زوجها أو عشيقها أو حبيبها، لكي نعرف شكل العلاقة ومدى مخالفتها لشرع الله، لكن الأغنية وبرغم أنها لجأت للتعمية في قضية هامة كهذه، لجأت للإفصاح والإيضاح حين تحدثت عن سبب المشكلة الجنسية التي أدت إلى إنهاء قصة الحب، حيث تقول بطلة الأغنية عن زوجها أو حبيبها أو عشيقها بالنص: "رباه أشياؤه الصغرى تعذبني.. فكيف أنجو من الأشياء رباه".

ولأن الذهول والضحك لا يجتمعان، ظللنا ننصت إليه مشدوهين وهو يشرح بحماس، أنه حتى لو كان نزار قباني قد قام بتحديد شكل العلاقة، فقال في مطلع قصيدته ـ التي عاد صديقنا إلى نصها للتأكد ـ إنه يتحدث عن علاقة زوجية، لما ساهم ذلك في تخفيف جرمه، بل لربما زاده، لأنه لا يليق بزوجة أن تقوم بفضح أسرار زوجها الشخصية، خاصة وأن هناك أحاديث نبوية صحيحة وصريحة، تلعن كل من يفشي أسراره الجنسية مع شريك حياته، ثم إننا حتى لو تغاضينا عن طبيعة تلك العلاقة، هل يصح أن نتقبل أن تكون هناك أغنية تغنيها سيدة محترمة ورقيقة وبنت أصول مثل نجاة، تتحدث على الملأ عن حيبية تهجر من يحبها وتكسر كئوس حبها لأن أشياءه صغرى بشكل يعذبها ولا مؤاخذة، ثم ألا ينبغي أن نسأل هنا عن الكيفية التي حكمت بها بطلة الأغنية على مسألة الصغر والكبر، وهي مسألة تقديرية بحتة، فما قد يراه شخص ما كبيراً، قد يراه غيره صغيراً وهكذا دواليك.

كنا قد استعدنا قدرتنا على اللعب ورغبتنا الملحة فيه، فعدنا ثانية للتشكيل عليه، لأبدأ بالتأكيد على كلامه بالإشارة إلى حكمة الأجداد التي استقرت في هذا الموضوع على أن "الركّة مش على الطول، الركة على المفعول"، ليستقبل صديقنا المضيف الكرة ويقول أن هذه ليست حكمة أجداد ولا نيلة، بل هي قصر ديل كالتي دفعت أحد أصحاب الأشياء الصغرى المعذِّبة للدفاع عن نفسه بإطلاق عبارة "قصيّر بس يحيّر"، وقبل أن نمعن في الحديث العابث عن مسألة الأطوال والأحجام، قاطعنا صديقنا ليعيدنا إلى صلب الموضوع، قائلاً إنه كان يمكن أن يحترم الحرقة التي جعلت بطلة الأغنية تبث شكواها إلى الله، متضرعة "ربّاه ربّاه"، في مسألة حميمة كهذه قد يتفق الأطباء أو يختلفون على أهميتها، لكنه أدرك في الكوبليه التالي أن بطلة الأغنية التي تخيلها نزار وجسّدتها نجاة، لم تكن للأسف راغبة في الستر والعفاف، وأن شكواها إلى الله، كان لها علاقة بالقافية التي لجأ إليها الشاعر لا أكثر ولا أقل، مثلما فعل في بيت لاحق حين ختمه بقوله: "هنا كتاب كنا قرأناه"، لمجرد أنه كان محتاجاً إلى كلمة تنتهي بحرف الهاء، إذ لا يمكن منطقياً أن تحضر قراءة الكتب بشكل مشترك في سياق فاضح كهذا.

وهنا التقط صديقنا المضيف اللعين الكرة التي جاءت له مقشرة، وقال له بخبث: "إلا إذا كان كتاباً طبياً عن الأشياء الصغرى وكيفية تكبيرها"، لأرد عليه معترضاً على فرضيته التي لو كانت قد صدقت لأكدت جدية الحبيب في حل المشكلة، بشكل لم يكن سيؤدي بحبيبته إلى الشكوى العلنية، وأن الكتاب المقصود ربما كان كتاباً فاضحاً حاول البطل استخدامه للمساعدة في حل مشكلة أشيائه الصغرى، فلما فشل في ذلك قام برمي الكتاب، وهو ما جعل البطلة تشير إليه قائلة "هنا كتاب كنا قرأناه"، وهنا فوجئت بصديقنا الرقيب وقد قفز من مقعده قائلاً: "الله ينور عليك بدليل إن نزار بعدها على طول بيخلي بطلة الأغنية تقول: على المقاعد بعض من سجائره"، وبعد أن استعاد الأبيات وقرأها علينا بتمهل، في حين كنا نضم شفاهنا ونحن نستمع، قلنا له إننا نتفق معه تماماً في وصفه لتلك الأغنية بأنها شبكة آداب مسموعة، لأن المسألة ليس فيها فقط مضاجعة لم تكتمل بسبب صغر الأشياء، ولا قراءة لكتب فاضحة أيضاً، بل فيها أيضاً سجائر كانت محشية بالتأكيد، وإلا لما أنتجت تلك الحالة من السُّطَل" التي جعلت الحبيب صغير الأشياء يقوم بإطفاء سجائره في المقاعد، بدلاً من وضعها في طفاية السجاير، إلا إذا كان يمتلك رغبة سادية في إطفاء السجائر في جسد حبيبته للتعويض عن نقصه، وربما لأنها من عائلة كبيرة وكل أقاربها لواءات في الجيش والمخابرات، فقد استعاض عن ذلك بإطفاء السجائر في المقاعد.

وحين نبهنا صديقنا المضيف إلى أن الأغنية لم تذكر بشكل صريح أنه قام بإطفاء السجائر في المقاعد بل ذكرت أنه قام برميها فقط على المقاعد، قال له صديقنا الرقيب إن هذه مسألة هامشية تهون إلى جوار الكارثة التي فعلها الحبيب الملعون، والتي جسدها نزار بقوله: "وفي الزوايا بقايا من بقاياه"، وهو معنى واضح وصريح في تجسيد وساخة الحبيب، الذي قرر أن ينتقم من الإذلال الذي تعرض له في السرير، فقام بإفراغ بقاياه في الزوايا، وهنا سألته مطالباً بافتراض حسن النية : "ألا يمكن أن يكون قد قام بفك زنقته في الزاوية لأن قواه لم تسعفه في الذهاب إلى الحمام"، فقال لي إنه فكر في ذلك المعنى، خاصة حين استخدم الشاعر كلمة الزوايا، لأن سياقاً كهذا يمكن أن توجد فيه البيرة، بل بالتأكيد ستوجد فيه البيرة، وتسوده أجواء عصبية، قد ينتج عنه "طرطرة عصبية في الزوايا والأركان"، لكن قيام الشاعر باستخدام تعبير "بقايا من بقاياه"، دون استخدام كلمة (فضلات) أو كلمة (مياه)، يهدف إلى تذكير المستمع بأن البقايا التي يتحدث عنها ليست أي بقايا، بل هي بقايا من نوع خاص، يستحق أن يفرد لها شاعر أريب لئيم مثل نزار تعبير "بقايا من بقاياه".

قلت له وقد توحدنا جميعاً في حالته الدرامية: "لكن هل يعقل أن يترك الشاعر حدثاً كهذا دون أن يصف لنا رد فعل الحبيبة على فعل مقزز كهذا"، فقال لي إن الشاعر احتاط لهذا السؤال بأن جعل حبيبته في تلك اللحظة تكون موجودة في داخل غرفة نومها، لتسأل مرآتها "بأي ثوب من الأثواب ألقاه"، وهو ما يعني أنها كانت قد سبقت حبيبها إلى الشرب والانسطال، وهو ما جعلها لا تكتفي بالتحديق في المرآة بل وتقوم بسؤالها، مع أنها كبرت المفروض على مرحلة سؤال المرايا التي تعيشها البنات في طفولتهن، لكننا في الوقت نفسه لا يمكن أن نستبعد احتمال أن تكون البطلة منسحقة تجاه ذي الأشياء الصغرى بشكل مريض، بحيث أنها كانت موجودة في اللحظة التي أطفأ فيها السجائر في المقاعد، ثم ترك في الزوايا بقايا من بقاياه.

قلت له إنني بالفعل لا أستبعد هذا الانسحاق على سيدة تعاني من اضطرابات نفسية وعقلية واضحة، لدرجة أنها لا تدري ماذا تقول للرجل الذي سيزورها في الشقة، هل تحبه أم تكرهه؟ بينما تقول في نفس الوقت إنها ستسمح له بأن يلعب في شعرها، وأظن أنه لا يوجد معنى آخر لحكاية "يلملم الليل عن شعري"، فليس من المتصور أنه كان يقوم بتفلية شعرها مثلاً، ثم بعد هذا نراها تسمح له أيضاً أن يدنو بمقعده أكثر، بعد أن كان قريباً بالقدر الكافي للملمة الليل من شعرها فقط، وهي مسألة لم تعد متاحة في أي مكان عام بسبب انتشار المتحرشين الغيورين على الأخلاق والفضيلة، ولذلك بات من الضروري حدوثها في الشقق المغلقة، ثم نراها بعد ذلك تتسامح معه أكثر وتسمح بأن "تنام على خصري ذراعاه"، وكلنا نعرف أن نوم الذراعين على الخصر هو نصف الطريق لنوم الذراعين في أماكن أخرى.

ثم واصلت وقد اندمجت في الشرح الوافي: بالطبع كان يمكن أن يفضي ذلك الطقس العابث في الأصل إلى نهاية سعيدة مبهجة، ربما لو حدثت لما كتب نزار قصيدته ولما التقطها شيطان الموسيقى عبد الوهاب، لكن ما حدث في تقديري أن الحبيبة الحائرة اكتشفت صغر أشياء حبيبها بشكل معذب، فانسحبت إلى غرفتها باكية للحديث مع المرآة، فقام هو بإفراغ بقاياه في الزوايا، و"زروَطة" المقاعد بأعقاب سجائره، وغادر الشقة ليترك حبيبته في حالة عقلية مزرية تجعلها تنسى كل ما حدث لها، وتفكر في رسائله التي ستطعمها للنار، ثم تسأل نفسها: "هل أنا حقاً حبيبته؟"، وهو سؤال إشكالي، يخفي رغبتها في إنكار حقيقة أنها ابتليت بحبيب اشياؤه صغيرة بشكل مرضي، إذ ربما تحتاج إلى مُلقاط لاستخراجها خلال الوصال، ولذلك لم يعد أمامها سوى إنكار قصة الحب كلها على بعضها، برغم أنها وصلت إلى حد من الثقة جعلها تستضيفه في بيتها، وتأتمنه على خصرها وتتوقع منه ضبط زواياها.

وهنا بالتحديد قفز صديقنا الرقيب من مقعده منتفضاً وهاتفاً: "يا ابن اللعيبة كده الموضوع اختلف وتعقد، تفتكر نزار يقصد بإن الزوايا زواياها هي ذات نفسها مش زوايا الغرفة، دي فيها ضبط وإحضار لنجاة وجثث نزار وعبد الوهاب؟ وديني لو اتأكدت من الموضوع ده ما أنا سايبهم"، فنفشل أنا وصديقي المضيف في استكمال لعبتنا، حين دخلنا في كريزة ضحك، كلما انقطعت اتصلت، لتنقطع علاقتنا منذ ذلك الوقت، بصديقنا الرقيب وبأغنية (ماذا أقول له؟).
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.