أشياء جهاد هديب

12 نوفمبر 2015

جهاد هديب في مهرجان شعري في صنعاء في 2006

+ الخط -
كلما مات شاعرٌ نحبّه ينقص من الوجود اتجاه، فنكسر شيئاً ثميناً في طريقنا إلى قصيدتنا المقبلة، هكذا نعود من جنازات الأصدقاء القتلى، (أقول القتلى، لأني أعتبر الموت قاتلاً لا سبيل للأسف إلى محاكمته)، ناقصين حكمةً وجداراً ونظرة، وباضطراب في بنية القصيدة القادمة، نعود ووهن في الساقين وتشوّش في معرفة الطريق إلى بيوتنا. وكلام غير متزن نقوله لزوجاتنا وأصحابنا الذين لم يموتوا بعد؟
ليس الألم فقط في غيابهم عنا، بل في أشيائهم، كما قال ماركيز، التي يتركونها عندنا. على أشياء الأصحاب الموتى أن ترحل معهم، فكّرنا في قصائد جهاد هديب، الحبيب الذي رحل قبل أيام قليلة، قصائده التي تملأ حياتنا ومكتباتنا، كيف سنتعود على قراءتها من دون أن ندرك أن في وسعنا بعد القراءة أن نهاتفه، وننادي عليه، ونتبادل معه الشتائم الجميلة والنميمة الثقافية؟ كيف سيكون بإمكاننا أن نسأل جهاد عن مصدر هذه الصورة وجمال هذه المفردة وهو الوحيد القادر على تفكيك الأشياء؟ كيف يمكن لقصيدة جهاد أن تعيش بعده؟ نصوص جهاد هي ذاته، حزنه الداخلي، وجعه الوجودي الغامض الذي يغلفه بمسحة من السخرية وكثير من الغضب.
في صيف 2002، زار جهاد فلسطين، ضمن وفد مثقفين عرب، كانت الانتفاضة تشتعل في تلك اللحظة، وكان جهاد يحتار بين الطلقة والقصيدة، كان يقول إن الطلقة هي المعنى، وإن القصيدة هي الشكل. وكانت المرة الأولى التي يعود فيها جهاد إلى فلسطين. إذا كان ثمة تعريف للسعادة فهي وجه جهاد العائد إلى بلاده أول مرة، كان يأكل الأمكنة بعينيه وفمه، وطلب منا أن نساعده في البقاء هنا. (سأتوقف عن كوني لاجئا) صرخ جهاد في وجوهنا، والدموع تتطاير من عينيه. كان يقرأ الشعر في أمسيات الانتفاضة الثانية، بنهم الجائع إلى شعبه، وكأنه يأكل الجمهور أكلا، لا أصدّق أنني أقرأ شعراً أمام جمهور في وطني، هذا فوق التخيّل، قال لنا جهاد وهو يفرك يديه مثل منتصرٍ في معركة وجود. وفي المساء، ونحن نمشي معه في شوارع رام الله، كان يقول لنا إنه مستعد للتخلي عن شعريته كاملة، في مقابل العودة والبقاء هنا.
أشياء كثيرة تركها جهاد لنا، أشياء لا تذهب، أشياء مطلوب منها أن تعذّبنا، وتنبهنا وتذكرنا، وتحجزنا، عاد جهاد إلى الأردن، وأصيب بالسرطان. كأن السرطان رد على اللجوء المستمر وسقوط الأمة المستمر. لو بقي جهاد هنا، لو شجعناه على ذلك، لما اقترب منه الخبيث المرعب. جميل هذا التوهم، ولذيذ أن نتخيّل أشياء نعرف أنها محض ترهات، ترهات مشروعة ومريحة. في المشفى في عمّان، كنا زهير ومهيب، وأصدقاء آخرون، نجلس حول جهاد قبل رحيله بساعات. كان جهاد يشبه جهاد، لا شيء يذكّرنا به، كان يحدّق في وجوهنا بثبات، ولم نكن نعرف إن كان يتعرف علينا أم لا، كان صامتاً بعيون متحركة بثبات وعمق. كنا نكتب له أسماء شعراء يحبهم، في فلسطين والعالم، كان يحدّق في الورقة مستفهما، من دون أن يبدو عليه أنه عرف. وحين كتب له مهيب عناوين قصائد ودواوين له، لم يبدِ أي معرفة أو ارتعاش. كان السرطان قد خطف جهاد، بين أيدينا ليلة الرحيل، لم يكن ثمة جهاد، كان مجرد حطامه وبقاياه التي ستنسحب شيئاً فشيئاً لتصبح عدما.
كلما مات شاعر نحبّه، فقدنا القدرة على الصبر، فنكسر شيئاً ثميناً ونمضي إلى جنوننا الفني. وحدنا نمضي مغتربين مغبّرين، لماذا يموت الشعراء يا الله؟ ولماذا لا يموتون؟ أليسوا بشرا؟
لا لا ليسوا بشراً أبداً، لا أصدق أن جهاد كان بشرياً، كان فراشة انتحلت صفة بشري، لسبب واحد: حتى تتقن كتابة القصيدة، وصار لها ما أرادت.
يا أشياء جهاد، اذهبي اذهبي.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.