في تناول جديد لفكرة لطالما داعبت خيال العلماء والفنانين على السواء؛ تنظّم جمعية "أشكال ألوان" في بيروت معرضاً خاصاً بعنوان "متحف الخلود"، يشارك فيه عدد كبير من فناني التجهيز والفيديو والرسم، والتصميم، عرباً وأجانب.
السؤال الذي يطرحه المعرض هو مادة اشتغال بحثي راهن، ذات تشعبات تمتد جذورها في البيولوجيا، والأنثروبولجيا، وآخر الاجتهادات في تعريف الثقافة وأطرها الاجتماعية المحلية، أو فضاءاتها العولمية. وهو سؤال يتلخص في ما إذا كان السعي إلى الخلود دافعاً أساسياً في وجود الثقافة، على سبيل التعويض عن قصور البيولوجيا في تحقيق ذلك.
وهو أيضاً نقاش حول فكرة النهايات المفتوحة التي طرحها الفيلسوف الروسي نيكولاي فيديروف (1880 ـ 1890) الذي يقول بالقدرة على تحقيق "القيامة"، كالتفاف على الموت العضوي، بآليات علمية توصل في نهاية المطاف التجريبي إلى الإنسان الكامل، والمنزّه عن "عيب" الفناء.
سيجد زوار "متحف الخلود" صناديق تشبه التوابيت، وقد رصفت إلى جانب/وفوق بعضها بعضاً بطريقة متحفية، يمكن للمرء وهو يتجول بينها أن يشاهد عبر زجاج أحد جوانبها "كاسيتات" قديمة مصفوفة، أو كرة قدم مع رسالة مكتوبة بخط اليد، أو نظارات طبية ومتعلقات شخصية لأحدهم، أو مصبّات قهوة، وربما قبضة تراب في منديل ورقي. ولعله أيضاً يستمع إلى قصة قصيرة تروي سيرة مختصرة للشخص "الخالد"، موضوع العمل الفني، عبر سمّاعة موصولة إلى "التابوت"، أو يتعثر بصندوق مغطى كلياً بورق الزبدة مع فتحة في المنتصف، إذا نظرنا داخل مستطيلها سنجد عبارة منقوشة بالإنجليزية على الزجاج تقول "هنا الشخص المفقود".
لا حدود للتجريد، والتجريب في هذا المعرض. فهناك مثلاً ملقط شعر، وبضع شعيرات شائبة تحمل "D.N.A" (المورثات الجينية) لعجوز متوفاة، والتي تظهر بالتزامن في فيديو مرافق ومعها صبية تساعدها على إزالة الشعر الزائد من وجنتيها المجعدتين، قبل أن نراها (في الفيديو أيضاً) مسجاة على سرير أبيض وقد فارقت الحياة.
هناك من اختار أن يجعل من التابوت حوض نباتات، وآخرون فرشوا أرضيته بمخلّفات المكسّرات وعلب المرطبات المعدنية، مع آثار قدمين لعابر مرّ فوقها. وثمة عدة ساعات من ذهب مزيف تغوص في طاسة "ستانلس" مقابل مرآة حلاقة محمولة مدورة. وفي مكان آخر، يحضر صندوق "ليدي ديانا" (1961-1997) مع تعليمات يمكن للمتفرّج أن يأخذ نسخة عنها، وينفّذ إرشاداتها بأخذ وضعيات معينة والتأمل ببعض النشاطات الخيرية التي كانت تقوم بها أميرة ويلز الراحلة.
في صندوق آخر نجد مخلفات سيارة تعرضت لحادث أودى بحياة سيدة في حين ابنتها الوليدة. وبجانب السيدة المتوفية رسالة سبق لها أن كتبتها إلى والدتها تعبّر لها فيها عن حبها، فنرى التواصل من الحفيدة إلى الجدة الذي أبقى الأم حيّة في وجدانيهما. وثمة صندوق بدون ضوء، مغلق تماماً إلا من فتحة طولية، حيث يمكن للمرء أن يلمس بدل أن يشاهد، ويمدّ يده داخلها، ويتخيل أشكال ومغزى وجود قماش ما، وأجسام صلبة، وأخرى رطبة، مع جملة ظاهرة تحثّ الزائر على "اللعب".
وسوى ذلك الكثير الكثير من الورق والحبر المسكوب في الرسائل، والشروحات، والنصوص المرافقة. وهنا تبرز مشكلة عدم ترجمة تلك النصوص إلى العربية (معظمها بالانجليزية والفرنسية)، رغم حجم القراءة الهائل المطلوب من الزوار لتلقي الأعمال الفنية. ناهيك عن دليل المعرض نفسه الذي من المفترض به أن يقدّم مزيداَ من المعلومات عن الفنانين أنفسهم وأفكارهم، والذي يتوفر بالإنجليزية فقط.
وهو أمر يطرح إشارة استفهام كبيرة حول مدى الرغبة في التواصل مع الآخر، ويضع على المحك نوعية الجمهور المستهدف من هذه العروض (التركيبية) التي ترتبط بوجود رُعاة ومانحين يبدو أنّهم اختاروا بشكل مرتجل أن "يخلّدوا" لغات أخرى، هذه المرة أيضاً، غير العربية.
على أنّ غياب التواصل "اللغوي"، في ظل الحضور الطاغي للمادة النصيّة، أفرز إشكالاً "ثقافياً" آخر، يتمثل في إمكانية حضور الصور والنصوص في ثقافة المنطقة كتعبير عن إعلان الوفاة أيضاً (النعوات في الشارع)، وهو أمر يقف على الضد من فكرة حضور الصور والنصوص (في المعرض) كإحياء للذكرى. إذ أن كثيرين يحرصون (بعد مرور وقت على دفن الشخص الميت) على إزالة تلك النعوات والصور، رغبة في نسيان ألم الفجيعة، ومحو ذكراها.
ملاحظة أخرى تلفت الانتباه، وهي غياب الـ"سوشال ميديا"(الإعلامي الاجتماعي) كما نعرفها اليوم بأدوتها الأشهر "فيسبوك"، و"يوتيوب"، و"فليكر"، و"تويتر"، وسواها، عن قريحة العارضين. إذ لا يبدو أنّ أدوات "الخلود الرقمية" هذه قد أثارت اهتمام الفنانين (المشاركين على الأقل)، رغم حضورها القوي كوسائل محدثة للتأبين، وتخليد الذكرى، وشيوع استخدامها في بلدان تشهد أحداثاً دامية مثل سوريا (صفحات الشهداء والمفقودين على فيسبوك)، أو تلك التي لا تريد لمآس بعينها أن يلفها النسيان سريعاً، كما هي الحال مع صفحة نقابيي معمل "رنا بلازا" الذي انهار على رؤوس عماله في بنغلاديش (2013) ساحقاً أرواح 1127 عاملاً وعاملة.
الطريقة "الديموقراطية" التي استدرجت بها عروض التقديم الفنانين المشاركين (والجمهور العام)، والقرعة التي تم اختيارهم عن طريقها بحسب أعداد الصناديق المعدّة للعرض؛ مثيرة للاهتمام بدورها. حيث أنّها تقدّم مثالاً عملياً لذلك التناقض الجوهري بين "حق الخلود" الذي يفترض أن يتمتع به الجميع (بحسب الأحاديث التي دارت مع الفنانين)، وتقنيات "التخليد" التي اقتصرت تاريخياً على أحداث وشخصيات بعينها، وتعتمد (قصداً أو اعتباطاً) على الانتقائية، وضرورة "مسح" ذكرى الآخرين (عمال، مهزومون، مستعبدون، موزعو جرائد..) لحساب تكريس ذاكرة "الخالدين" (أرباب العمل، المنتصرون، الأسياد، الكتّاب إلخ)، وتأثير ذلك على مسألة تدوين التاريخ نفسه الذي ستنهض تلك الشواهد والنصب في سياقه.
وهذا ما ستلتقطه العين سريعاً في محيط مبنى "أشكال ألوان"، حيث تمضي مواقع البناء الحديثة بهمّة لا تستكين في سبيل تعويم "الخلود التجاري" في مدينة مثل بيروت، تتلاشى فيها مع الوقت ذكريات سكانها مع اختفاء الأبنية القديمة، التي تزدردها بصمت آلة "إعمار الذكريات" القادمة للجيل اللاحق. وربما لتمحو ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية التي ما زالت آثارها منقوشة بعشوائية "فنيّة" على جدران مباني العاصمة، أنّى وجه المرء ناظريه، مخلّدة بارتجالية (وواقعية) أفعال القتل، والمجازر، والعبثية، والإيمان، والنضال، والمقاومة، على السواء.
لهذا قد تبدو التوابيت التي فُرضت كشكل إخراجي لمنصة الخلود في المعرض (دون استشارة الفنانين)، أضعف ما فيه على مستوى التقديم البصري. إذ أنّ صفوف هذه الأكفان الخشبية تمتد على أرض الواقع في ديكور أضخم، كتوابيت "حيّة" لا يزال خشبها رطباً من الدم الذي يتسرب منها في سوريا والعراق وليبيا واليمن والبحرين، مما جعل حضورها الفني هنا أقل من عادي، وخالياً من الابتكار.
_________________________________
يستمر المعرض حتى 18 تموز/ يوليو 2014
جمعية "أشكال ألوان" - شارع 90، جسر الواطي، بيروت
الفنانون العرب المشاركون في المعرض: بلسم أبوزور، ريم عقل، ليان الغصين، كريستيان عصوري، ميرنا بامية، مونيكا بصبوص، طوني شكر، هاديا غانة، ريمون جميّل، فادي حنّاوي، مكسيم حوراني، أمل عيسى، ندى زنهور، لين قديح، بيتينا مشمّر، مهرين مرتضى، رائد رافعي، محمود صفدي، ماريا سركيس، كلارا صفير، غرازييلا رزق الله توفيق، جلال توفيق.
الفنانون الأجانب: بربارة أندرليك، ستيفان بكماند أندرسن، إيدا كات بالسليف، نيكولا هارتل، دانييل باروكا، ميكاييلا بريبينر، ماييفا برينان، ميغيل فرنانديز دو كاسترو، لور دو سيليس، راشيل ديدمان، غوران ديورديفيتش، أوكتافيان إيسانو، رومين هامار، دافني برود، راهيل كيسيرلينغ، جيسيكا كازريك، جينجو كيم، إيلي كريكيلير، ميكو ماكي، نانا نوديك، أريونا نومان، فيليب بيليكيار، كريستوفر ميلر، أمبرا بيتوني، أوليكسي رادينسكي، أليسيا روغالسكا، ساره شالك، هارونا تاكاكورا، بيلين تان، أنتون فيدوكلي، ناتان ويت.