لا نبالغ بالقول إن مسلسل "أستاذ ورئيس قسم" (بطولة عادل إمام)، المعروض في موسم رمضان الحاليّ (2015)، هو إمعانٌ في ترسيخ الانقلاب على الثّورات العربيّة، مفهومًا وفعلًا، ونسفٌ لما بقي محفوظًا من جمالِ قوّتِها وقدرتِها على التّغيير في وعي النّاس؛ جمالٌ تجلّى تحديدًا في عاميها الأوّلين، قبل الانقضاض عليها وحرف مسارها من الطّارئين، ومن بقايا الأنظمة الاستبداديّة والقوى الدولية المتناطحة.
ينجح المسلسل خلال حلقاته الأولى في إقناع المشاهد بنضاليّة وثوريّة البطل، د. فوزي جمعة، ضدّ الفساد والاستبداد على مدار عقودٍ قبل الثّورة، وبإنسانيّته في التّعامل مع المحيطين به، وتحديدًا العمّال والفلّاحين الكادحين والطّلبة، وتمرّده القيميّ لصالح الفرد، الذي يظهر في عددٍ من القضايا الاجتماعيّة، الخاصّة به والعامّة.
وكلّ ذلك يدور في فلك مصطلح "الأبوّة"، فهو "البابا" الحنون، حتّى لمن ليس أباهم، والأب الفكريّ لليساريّين والثّوريّين، والأب البيولوجيّ لطفلٍ ناتجٍ عن علاقةٍ خارج إطار الزّواج، عبد الحميد، والذي سيعترف به بعد عقودٍ من تأكّده بأنّه كان عقيمًا.
وبعد أن تترسّخ وتتحقّق صورة الأب المثاليّ، وتتأكّد الحاجة إليها وضرورة وجودها لدى المتلقّي، وإلّا لما كانت الثّورة، وفق المسلسل، تبدأ المرحلة الثّانية من العمل، ألا وهي مرحلة التّركيز على "فشل الثّورة"، واستعراض قبحها وأسباب فشلها:
فالثّوّار في المسلسل، وتحديدًا الشّباب من يساريّين ودينيّين، يخونونها ويتخلّون عن مبادئهم ليحصلوا على مناصب في محافظاتٍ ووزارات، أو ليحقّقوا منافع ذاتيّة، أو يتخبّطون بين هويّات متناقضة في أوقاتٍ قياسيّة، دلالةً على عدم نضوجهم وأهليّتهم، وعلى أنّ صغر سنّهم كان من عوامل ضياع الثّورة، مقابل وعي وإدراك د. فوزي جمعة، السّتّينيّ، في ضربٍ على ما يبدو لشبابيّة الثّورة، وهي الصّفّة الّتي تميّزت بها الثّورات العربيّة عمومًا.
لا بل إنّ مشاهد الثّورة نفسها لا بطولة فيها ولا استبسالٌ وصمودٌ وجمال، تستحقّ أن تعرض دراميًّا باحتفاء، كما شاهدنا وعايشنا في الواقع؛ فكان التّركيز على عرض عنف الثّوّار الجسديّ، والبلطجة، وانتشار السّرقة والخوف بسبب غياب السّلطة، وعدم تحمّس الكبار لها، وإن كانت هذه المظاهر قد حصلت فعلًا ولا يمكن إنكارها، إلّا أنّ طريقة عرضها في المسلسل، ضمن سياقاتٍ محدّدة، تبيّن أنّ الهدف لا يقف عند حدود النّقد ومحاسبة مجتمع الثّورة دراميًّا، بل يتعدّى ذلك.
فمن مقولات المسلسل مثلًا، إنّ الثّائر السّوريّ المثقّف اللّاجئ إلى القاهرة، يظهر فيه نادمًا لإقدامه على الثّورة، كافرًا بالكتب والشّعارات والمبادئ الّتي حملها حول حقوق الإنسان والكرامة والدّيمقراطيّة ورفض الاستبداد، وذلك لما آلت إليه الأمور في سورية، وهنا الثّورة متّهمةٌ فقط دون أدنى تلميحٍ لنظام الأسد؛ والموقف منها يتلخّص بعبارةٍ يقولها الثّائر النّادم ساخرًا، خلال حوارٍ له مع د. فوزي جمعة: "أهلين ثورة!"، ثمّ يمضي، ليكون هذا هو الموقف ولا موقف سواه، يحاججه ويناقشه ويبحث عن الأسباب، فنحن أمام إطلاق أحكامٍ جاهزةٍ بلا مقدّماتٍ ولا توقّعات، وكفى.
والأقباط في المسلسل مهدّدون يغادرون وطنهم بعد الثّورة، حتّى المتمسّكين بالبقاء منهم رغم كلّ الظّروف، التزامًا تجاه وطنيّتهم المصريّة وقوميّتهم العربيّة، يستسلمون في النّهاية، وتحديدًا بعد فوز محمّد مرسي برئاسة الجمهوريّة، والسّبب في ذلك وفق المسلسل:
الثّورة، دون بيان أيّ علاقة للدّولة العميقة والمؤسّسة الكنسيّة بالواقع الحاصل! حتّى أنّ التّفجيرات الّتي تستهدف الكنائس تظهر في سياق الثّورة فقط، علمًا أنّ وزارة حبيب العادلي كانت الأكثر تورّطًا فيها قبل الثّورة، وهو ما فضحته الثّورة وواجهته.
واليساريّون رومانسيّون، دائمو الانفعال والغضب، يحفظون الشّعارات ويردّدونها دون توقّف، حتّى أنّ الشّخصيّات الّتي تمثّل هذا التّيّار في المسلسل، تظهر في غالبيّتها غير متّزنة وبعيدةً عن الرّزانة، ولا تملك أيّ مشروع.
والإخوان المسلمون، وعموم الإسلاميّين، يمنحهم المسلسل صورةً نمطيّةً واحدةً سطحيّةً ثابتة، فهم مجموعةٌ من الفاسدين المنتفعين الانتهازيّين المستغلّين للدّين، ليس إلّا، لا يحبّون وطنهم، يرفضهم الشّعب المحبط منهم، وقد سرقوا الثّورة وخرّبوها؛ وهذا الحكم يأتي تحديدًا من البطل، الحائز على تعاطف المتلقّي، بصورةٍ مباشرةٍ بعيدةٍ عن التّلميح.
حركة "تمرّد"، الّتي تأكّد ارتباطها مع مرور الأيّام بالانقلاب العسكريّ منذ ما قبل انطلاقها، يكرّسها المسلسل معبّرةً عن رغبات النّاس وأحلامهم وطموحاتهم، دون إخضاعها لأدنى تقييمٍ نقديّ، وأنّ المصريّة تتلخّص بموقفها وموقف مؤيّديها، لا لماهيّتها، بل في سياق مواجهتها للعدوّ الإسلاميّ الإخوانيّ.
أمّا العسكر، الذي كان متحكّمًا بالمشهد ومتصدّرًا له منذ رحيل مبارك، حتّى اليوم، والعابث بالثّورة فعليًّا، والمتحالف مع الجميع والمنقلب على الجميع في الوقت نفسه، فلا ذكر له أبدًا في المسلسل، وكأنّه لم يكن موجودًا يومًا ولا حضور له، فهل هو خارج الزّمان والمكان؟
أتوقّع أن ينتهي المسلسل، وقبل أن نشاهد الحلقة الأخيرة منه، بمشاهد تحتفي بانقلاب 3 يوليو بُعيد تظاهرات 30 يونيو، وتمجّد العسكر وسيّده الحاليّ، محمّد عبد الفتّاح السّيسي؛ أو يبقى العسكر في أفضل الأحوال خارج الحبكة تمامًا، وهو غيابٌ يحمل مقولة عدم علاقته ومشاركته في تحمّل المسؤوليّة عن الوضع المأساويّ الحاصل في مصر والوطن العربيّ عمومًا.
كلّ تلك المقولات الّتي تأتي لتكريس الانقلاب وشرعنته، والقضاء تمامًا على مفهوم الثّورة، تُعرض في قالبٍ دراميٍّ فنّيٍّ جاذب، وسيناريو ذي خفّةٍ ذكيّة، إذ لا يتطلّب جهد تلقٍّ كبير؛ كما يأتي بأداءٍ تمثيليٍّ جيّد، وبمركزيّةٍ للزّعيم، عادل إمام، ذي الرّصيد الكبير لدى المشاهد العربيّ، مع توظيفٍ لعنصر السّخرية والنّكتة، وهو أمرٌ لا مفرّ منه متى حضر إمام.
ولهذا لا استغراب من أن تتسرّب تلك المقولات إلى العقول والنّفوس بكلّ سهولةٍ وراحة، في سياقٍ من الفوضى المقصودة الّتي تعصف بالوطن العربيّ عمومًا، ومصر خصوصًا، وفي ظلّ صراع المحاور وتشابك المصالح؛ ما يجعل الوصول إلى الحقيقة مهمّةً عسيرة، وقلب مفاهيم لإنتاج مفاهيم جديدة، ممكنٌ جدًّا ويسير.
* شاعر وباحث من فلسطين
بطاقة المسلسل: إخراج وائل حسّان، وتأليف يوسف معاطي، وبطولة عادل إمام. يمتدّ المسلسل زمنيًّا منذ الأحداث الّتي مهّدت للثّورة المصريّة عام 2011 حتّى تظاهرات 30 يونيو عام 2013، من خلال القصّة الذّاتيّة والسّياسيّة للدّكتور فوزي جمعة، الأستاذ الجامعيّ والسّياسيّ اليساريّ المعارض.