أسئلة اللحظة التركية المبكّرة

22 يوليو 2016
+ الخط -
إلى أن تنجلي التطورات التركية المثيرة لكل التوقعات، عن صورةٍ كليةٍ متماسكةٍ، لا موضع فيها للفراغات، سيظل هذا الزلزال السياسي العنيف، وما تمخض عنه من تفاعلات، وما قد يترتب على تداعياته المحتملة من مضاعفاتٍ دراماتيكية قيد التشكل منذ الآن، محل أسئلةٍ ملحةٍ لا حصر لها، يتصل بعضها القليل بمفاتيح أدوات الاستفهام، مثل لماذا وكيف وهل وأين ومتى، وبعضها الكثير يخاطب المستقبل المعلق على جملةٍ طويلةٍ من الممكنات والاحتمالات والحسابات والتحسبات، المرهونة بالأفضليات والأولويات والخيارات التركية المتاحة من جهة، وردود الأفعال المتوقعة في المحيط المجاور، أو من جانب الغرب على جانبي الأطلسي من جهة مقابلة.
ولعل أول الأسئلة التي تطرح نفسها من تلقاء نفسها، في هذه اللحظة التركية الكاشفة لما قبلها ولما بعدها، سواءً بسواء؛ هل كان الانقلاب العسكري الفاشل من صنع يديْن تركيّتين خالصتين، أم أنه كان منسقاً مع الخارج؟ فإذا كان الأمر مجرد مغامرةٍ طائشة، قام بها رهطٌ من الجنرالات والأميرالات، فلماذا كانت علامات الارتباك والصدمة باديةً على الوجوه الأميركية والأوروبية التي لاذت بصمتٍ يشوبه الترّقب والانتظار طوال الساعات الأولى لليلة الانقلاب، ولم تعط تلك العواصم التي بقيت تمسك العصا من وسطها دعمها الكلامي للشرعية الدستورية ودولة القانون، إلا بعد أن مالت الكفة لصالح قيادة رجب طيب أردوغان، بعد منتصف تلك الليلة الليلاء؟
قد ينقضي وقتٌ غير قصير إلى أن تتحقق القيادة السياسية، والرأي العام داخل تركيا وخارجها، من صحة الافتراض المرجّح بقوةٍ متزايدة، وهو أن أميركا التي كانت تعمل من وراء الستار، ومن أمامه في أحيانٍ كثيرة، على إفشال خطط الرئيس التركي، وتقويض كل خياراته على طول الخط، قد فعلتها أخيراً، بعد أن فاض كأسها المترع بنوازع المؤامرات، وضاقت ذرعاً بما كانت تؤوله من نوايا ملتبسة، وتقديراتٍ رائجة عن طموحات أردوغان الإقليمية، إلى الحد الذي وقفت فيه علناً ضد خيار المنطقة الآمنة شمالي حلب، ورفضت فيه إسقاط نظام بشار الأسد، بل فضّلت التحالف مع الحركة الكردية الانفصالية على تحالفها الاستراتيجي مع الأتراك.
وعليه، فإن السؤال المبكر عمّا إذا كان الانقلاب منسقاً مع الخارج، لم يعد محل اجتهاد، فها هي سلسلةٌ طويلةٌ من الإشارات والدلائل، المتكاثرة مع مرور الوقت، تتولى الإجابة عليه بكل بلاغة، فيما يبقى السؤال الأكثر تعقيداً، هو ما الذي كان مستهدفاً من نتائج سياسية مركّبة، وكان معلقاً عليه من رهاناتٍ بعيدة المدى، تتصل بالداخل التركي أولاً، وبالأوضاع الجيوسياسية في المحيط المجاور ثانياً، طالما أن الغاية النهائية المرغوب فيها من الدولة العظمى الوحيدة كانت إعادة فك معادلة الشرق الأوسط وتركيبها، بإضعاف أحد أهم اللاعبين الإقليميين في المنطقة، لصالح لاعبين اثنين متربصين بالغنيمة، هما إسرائيل بالدرجة الثانية، وإيران في المقام الأول؟
وكان لافتاً بشدة الترحيب الهستيري، وروح التشفي الفظّة، من جانب التحالف الإيراني،
بالانقلاب الذي لم يدم كثيراً، ناهيك عن خيبة الأمل التي استبدّت بإعلام أذرع هذا التحالف، إثر فشل الانقلاب بسرعة، الأمر الذي يسمح بالقول، من دون تعسّف، إن النتيجة الفورية لعملية إخراج الطرف التركي من لعبة التوازنات الإقليمية كانت ستصب القمح كله في طاحونة المشروع التوسعي الإيراني الذي اكتسب قوة دفعٍ كبيرةٍ غداة إبرام الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة التي لم تعر أذناً صاغيةً لتحذيرات العرب من النتائج بعيدة المدى لهذا الاتفاق الذي سيطلق العنان لآيات الله، وذلك وسط تجاهل أميركي يصعب فهم دوافعه، إذا لم يكن الأمر منطوياً على تبديل أميركي للتحالفات.
ويكفي إغماض العينين برهةً قصيرة، وتأمّل المشهد الإقليمي فيما لو نجح الانقلاب، وتحولت تركيا من دولةٍ داعمة للثورة السورية على سبيل المثال، إلى عنصر إجهاض لهذه الثورة اليتيمة، وانعطفت من قوةٍ وازنةٍ تقف في ظهر قطاع غزة، إلى شوكة مغروزة في خاصرة القطاع النازفة من طول الحصار، كي يتبيّن لكل ذي لبٍّ قيمة الجوائز التي كانت ستقدّم بالجملة، لصالح القوى المعادية لحاضر العرب ومستقبلهم، إن لم نقل الانهيارات المدويّة المقدّر لها، والحالة هذه، أن تخلق فراغاتٍ استراتيجية في المشرق العربي، كانت ستملأها إسرائيل وإيران، وتتقاسمان مناطق النفوذ فيه شبراً بشبر.
والحق، أنه لم يتبين لنا في ما مضى، ونحن نرى تعهدات أردوغان تتبخر تباعاً، وخطوطه الحمراء تمحي مراراً، لاسيما حيال اجتياحات قوات الأسد المدن السورية، والتزامه بألا يتكرر في حمص ما حدث في حماة قبل أربعة عقود، إلا عندما كشفت العملية الانقلابية مدى تحكّم جنرالات الجيش التركي بمفاصل صنع القرار في أنقرة، وثقل القيود التي كانت تغلّ أيدي الرجل الذي كان يبتلع ريقه في كل مرة، ويصمت على مضض، وهو يرى مصداقيته تتآكل تدريجياً، الأمر الذي يجعلنا الآن أكثر قدرةً على فهم تلك الانحناءات غير المبرّرة، في حينه، ويحملنا على الاعتقاد، من دون إسراف، أن الرئيس التركي سوف يكون أشد التزاماً بكلمته في المستقبل.
وإذ نضع جانباً كل الأسئلة المبكرة عن مآل المخاض الجاري في دواخل النظام التركي، الطالع لتوّه من تجربةٍ عنيفة للغاية، بما في ذلك عملية التطهير في الجيش والقضاء، القائمة على قدمٍ وساق، فإن لنا أن نواصل طرح الأسئلة بلا هوادة، حول ما إذا كان مقدّراً لهذه الهزة السياسية الكبيرة أن تفضي إلى تحولاتٍ عميقةٍ في دور أنقرة الإقليمي والدولي، على ضوء الخلاف المرجح له أن يتصاعد مستقبلاً مع الدول الغربية، الضاربة بشدة على دفوف حقوق الإنسان وحماية الحريات، من أجل عيون الجنرالات، والحفاظ عليهم رصيداً احتياطياً لثورة مضادّة، أو عملية عسكرية خاطفة، قد تقع في المستقبل.
ولعل هناك فيضاً من الأسئلة الأخرى المؤجلة إلى حين الانتهاء من التحقيقات الجارية، والخروج بزخمٍ تركي جديد من صدمة اللحظة الانقلابية العاصفة، حول ما إذا كانت الدولة التركية ستستعيد عافيتها بسرعة، وتعيد تموضعها على خشبة المسرح السياسي في الشرق الأوسط، دولةً مركزية بالغة الأهمية، أم إن ما لحق بها من أضرار فادحة، قد يضعف دورها الخارجي إلى أجلٍ غير معلوم، ويثقل على أدائها الداخلي، بما في ذلك فاعليتها الاقتصادية، وفوق ذلك كله يخلق الفراغ الاستراتيجي، على نحوٍ يخدم مصالح خصومها وأعدائها الكثيرين، خصوصاً نظام الأسد، والانفصاليين الأكراد، وكل "الممانعين"، وفي مقدمتهم إيران.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي