تنتهي الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي، باحتفالٍ يجمع السياسي ـ الأخلاقي ـ الإنساني بجماليات سينمائية مختلفة. توقّعات معتادة تحصل قبل ساعات من بدء الاحتفال، مساء السبت 19 مايو/أيار 2018، و"مراهنات" بين أصدقاء وزملاء مهنة، مبنية على مشاهدات وتحليل ونقاشات وأهواء. أمزجةٌ عديدة تؤدّي دورًا بارزًا في التوقّعات، وبعض المعنيين بالسينما يقول إن أمزجة كهذه تُشبه أمزجة أعضاء لجنة التحكيم، التي تتحكّم في علاقتهم بالسينما، لغةً وأسلوبًا ومعالجةً واشتغالاً ومعارف والتزامات وقناعات.
العالم يغلي. أشهر قليلة تفصل بين الإعلان عن فضيحة المنتج الهوليوودي هارفي وينستين (تحرّشات واعتداءات واغتصابات) والدورة الـ71 لـ"كانّ". هذا كافٍ لاتّخاذ موقف أخلاقي وإنساني إزاء مسألة المرأة، فلوينستين نفسه مكانةً بارزة في المهرجان، وبعض "أفعاله" منفَّذٌ في دورات عديدة سابقة له. مهرجان "كانّ" منخرطٌ ـ بشكلٍ أو بآخر ـ في التزام موقفٍ أخلاقي إزاء المسألة: الدفاع عن حقوق المرأة ككائن بشري حيّ، وعن موقعها في الصناعة السينمائية. تكليفُ الأسترالية كايت بلانشيت برئاسة لجنة التحكيم الخاصّة بالمسابقة الرسمية ترجمةٌ عملية لموقف المهرجان. بعض النتائج/ الجوائز انعكاسٌ لتوافق حاصل بين أنماط التفكير الخاصّة بكايت بلانشيت وأعضاء لجنة التحكيم وإدارة المهرجان.
لكن، من أصل 20 فيلمًا مُشاركًا في المسابقة الرسمية، هناك 3 فقط لمخرجات: "كفرناحوم" للّبنانية ندين لبكي (جائزة لجنة التحكيم)، و"سعيدٌ مثل لازارو" للإيطالية أليس روهرواشر (جائزة السيناريو لروهرواشر، مناصفة مع الإيراني جعفر بناهي عن فيلمه "3 وجوه")، و"فتيات الشمس" للفرنسية إيفا هوسّون. الممثلة الكازاخستانية سامال يسْلياموفا تنال جائزة التمثيل النسائي عن دورها في "أيكا" للكازاخستاني الروسي سيرغي دْفورتسيفوي: معاناة امرأة في مواجهة مظالم اجتماع وحياة وعيشٍ.
يسأل البعض: "هل السياسة حاضرة، إلى هذا الحدّ، في توزيع جوائز سينمائية؟". المسألة أبعد من هذا بكثير. السينما حاضرة غالبًا. لكنها غير متمكّنة، دائمًا، من لجم الاندفاع إلى قضايا غير سينمائية، لكنها مُحقّة. مهرجان عريقٌ ومهمٌّ، كذاك المُقام منذ 71 دورة في المدينة الجنوبية الفرنسية "كانّ"، قادرٌ على مزج السياسة بالسينما، من دون انتقاصٍ من أولوية الفن السابع وصناعته وابتكاراته وجمالياته، ومن دون تغاضٍ مطلق عن أحوال عالمٍ مرتبك ومضعضع وتائه وممزّق ومشحون بألف حرب وخراب وقلق وخوف.
المآسي فاعلةٌ وحاضرةٌ. الشرق الأوسط يغلي، والاندفاع إلى ارتكاب شرورٍ حاصلٌ في جغرافيا ممزّقة ومسكونة بأوجاعٍ وخيبات. ندين لبكي تغوص في بعض خراب لبناني، فيه جانبٌ عنصريٌ طاغٍ في العيش اليومي إزاء عرب وأجانب (كفرناحوم). الأميركي سبايك لي مهمومٌ بعنصرية بيضٍ إزاء سود، وبديع في انجذابه إلى سخرية بديعة، واقعية وحيوية، في مقاربة المسألة (Blackkklansman)، فيحصل على الجائزة الكبرى. جعفر بناهي يهجس بيوميات أفرادٍ ينتمون إلى بيئته وناسه وجغرافيته، رغم اختلاف لغة وتقاليد وممارسات عيشٍ والتزامات وأقوال وهواجس (3 وجوه). البولوني بافل بافليكوفسكي يختار البدايات الأولى للحرب الباردة، كي يرسم ملامح تحوّل ومعالم حبّ وحيوية إبداع وشغف عيش رغم قسوة المنبثق من الحرب العالمية الثانية، عبر الأغنية والصوت والجمال، وتقنية الأسود والأبيض (حرب باردة).
هذه تفاصيل أساسية. للسياسة دورٌ، لكن للسينما طغيان تتفاوت جمالياته بين فيلم وآخر. الفقر والتهميش والتسلّط والقسوة والفوضى والعنف الفردي والبهتان الإنساني، أمور حاضرة في أفلام تنال جوائز أساسية، كما في أخرى تحتفظ بميزة اختيارها الرسمي في المسابقة أو خارجها، في مهرجان هو الأول في العالم. الخروج منها إلى عناوين عامة تتناول الاجتماع والناس والتحوّلات والعيش اليومي بديهي وضروري. الجوائز تكريم وموقف. لكن السينما عامل جاذب للفوز بجائزة، وعامل أساسيّ لمتعة مشاهدة وتحريضٍ على سجال وقول ونقاش، رغم المصاعب والأهوال والمآسي والمآزق.
لن يكون صائبًا عدم التطرّق إلى الحضور العربي. فوز اللبنانية ندين لبكي بجائزة لجنة التحكيم عن "كفرناحوم"، دعوة إلى قراءة مسألتين اثنتين: الحضور السينمائي العربي بحدّ ذاته في المهرجان العريق، والمعاني السينمائية في فيلمٍ يعكس شيئًا من خراب بلد وبيئة وناس، بلغة قاسية لكن من دون قطع، وبأسلوب حاد لكن من دون إدانة مباشرة، بل على العكس من ذلك: أسلوب ينتهي بإيجابية واضحة لركنٍ من أركان النظام اللبناني الحاكم، يتمثّل في الجانب الأمني.
لكنه حضور عربي يُكمل حضورًا قديمًا. عربٌ عديدون يُشاركون في المهرجان الدولي، ويفوزون بجوائز. ندين لبكي نفسها حاضرة في برامج ومسابقات مختلفة عن المسابقة الرسمية، التي تضمّ إلى "كفرناحوم" فيلمًا مصريًا بعنوان "يوم الدين" لأبي بكر شوقي، تمامًا كمشاركة عربية في برامج الدورة الـ71 (2018)، تؤدّي إلى فوز "صوفيا" للمغربية ميريام بنمبارك بجائزة أفضل سيناريو في مسابقة "نظرة ما". لكن الفرق بين "كفرناحوم" و"صوفيا" شاسعٌ، رغم أهمية الموضوعين وأولويتهما وضرورة طرحهما، فنيًا وثقافيًا واجتماعيًا وفرديًا.
تنتهي الدورة الـ71 بإعلان نتائج ومنح جوائز. هذه عادة سنوية لمهرجانات سينمائية مختلفة. لكن النقاش النقدي حول الأفلام مستمرٌّ.