تظهر نتائج الانتخابات البرلمانية المولدوفية انقسام البلاد على نفسها، بين متطلعين إلى موسكو وآخرين إلى بروكسل، في وقت يظهر فيه أنّ هذا الانقسام لا يعني أحداً من السياسيين المولدوفيين أو المتصارعين الجيوسياسيين. فإعادة اللحمة إلى المجتمع المولدوفي، وحلّ مشكلاته الداخليّة، الاقتصاديّة منها بالدرجة الأولى، والعمل على هويّة مشتركة جامعة، أهداف لا تجد من يمولها اليوم.
وفي حين أنّ روسيا ليست بصدد فعل شيء يعيد مولدوفا إلى استقرارها ويضع اقتصادها على طريق النمو، لا يبدو أنّ الاتحاد الأوروبي عازم على قبولها في عضويته، على الرغم من توقيعه اتفاق شراكة معها في ربيع العام الحالي، وإلغائه نظام التأشيرات لمواطنيها.
وكان وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، قد استبعد في مقابلة أجرتها معه صحيفة "بيلد" الألمانية في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إمكانيّة انضمام مولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي في المدى القريب، واصفاً إياها بأنّها "واحدة من أفقر البلدان في أوروبا، ولديها خلافات سياسيّة داخليّة كبيرة وتجرّ خلفها كومة من المشاكل".
ومن المقرّر أن تُعلن، اليوم الجمعة، النتائج النهائية للانتخابات التشريعية المولدوفية التي تنافس فيها أنصار روسيا مع أنصار أوروبا، لكنّ الإعلان عنها لا يتعدّى كونه مسألة بروتوكوليّة، بعد إعلان نتائج شبه نهائيّة لا تبشّر بالخير لهذه البلاد.
وتُظهر النتائج الأوليّة، التي أعلنها رئيس لجنة الانتخابات المركزيّة في مولدوفا، يوري تشوكان، أنّ نتائج الانتخابات البرلمانية تشير، بعد فرز 98.26 في المائة من الأوراق، إلى فوز حزب الاشتراكيين بـ 20.75 في المائة من الأصوات (25 مقعداً)، والحزب الليبرالي الديمقراطي بـ 19.97 في المائة (23 مقعداً)، والحزب الشيوعي المولدوفي بـ 17.71 في المائة (21 مقعداً)، والديمقراطيين بـ 15.94 في المائة (19 مقعداً)، والليبراليين بـ 9.53 في المائة (13 مقعداً).
وتشير قراءة هذه النتائج إلى أنّه لدى المولدوفيين، من أنصار التكامل مع روسيا والانضمام إلى الاتحاد الجمركي معها 46 مقعداً، مقابل 55 مقعداً لأنصار التكامل مع الاتحاد الأوروبي. وفي هذه الحالة، يستطيع تحالف الأحزاب الثلاثة الميالة للغرب، أيّ "الليبرالي الديمقراطي" و"الحزب الديمقراطي" و"الحزب الليبرالي"، تشكيل أغلبية برلمانية تخوّله تشكيل الحكومة وتسمية رئيس البرلمان. ولا يعني ذلك أن بإمكان هذا التحالف انتهاج سياسات حاسمة باتجاه أوروبا، باعتبار أن قرابة نصف المجتمع المولدوفي سيكون ضدّه، كما يشكّل ذلك ورقة في يد موسكو يمكن لها أن تستخدمها عند اللزوم.
وفي حين يفيد توزّع الأصوات بضرورة انتهاج سياسة متوازنة، لا روسّية ولا أوروأميركيّة، تضع على رأس أولوياتها مصالح الشعب المولدوفي، يشير الواقع إلى غياب الإرادة السياسيّة حول ذلك لدى الأحزاب الرئيسية المتنافسة على الحكم وزعمائها. ويستدعي هذا الوضع القلق، وهو ما يعرب عنه عضو مجلس الدوما لشؤون رابطة الدول المستقلة، فاسيلي لياختشوف، بقوله، وفق تصريحات نقلتها عنه وكالة "تاس"، قبل أيام، أنّ "الهدف من هذه الانتخابات لم يكن تحديد إلى أين ستسير مولدوفا: نحو الشرق أم نحو الغرب؟ فالمهمة المبدئية كانت إرساء مجتمع مولدوفي حديث ومتجانس، وهذا الهدف لم يتم تحقيقه". ويضيف: "تبيّن الانتخابات أن هذا المجتمع منقسم ومستقطب، الأمر الذي يستدعي قلقاً جديّاً من وجهة نظر الاستقرار الاجتماعي السياسي للبلاد التي تُعدّ اليوم جزءاً جوهريّاً من الأمن الأوروبي".
وفيما تتيح النتائج لأنصار أوروبا تشكيل ائتلاف حاكم، من شأنه أن يبعد، ولو قليلاً خطر ميدان أوروبي وصراع مفتوح قد تدخل فيه البلاد، تبدو السلطة المقبلة أمام تحدّي مواجهة الفقر، الذي تعانيه البلاد المنقسمة على نفسها، وتحسين العلاقات مع موسكو، لناحية استئناف المفاوضات بشأن تسوية النزاع مع إقليم بريدنيستروفيه، حيث صوت أكثر من 90 في المائة من سكانه لمصلحة التقارب مع روسيا، وفق وكالة "تاس".
قراءات تصعيديّة
وفي قراءة خاصة لنتائج الانتخابات المولدوفية، تنقل وكالة "ريا نوفوستي" عن مدير معهد الأبحاث الدبلوماسية المولدوفية ومسائل الأمن، فاليري أوستاليب، قوله إنّ "هذه الانتخابات تُعدّ أكبر صفعة مدوية للدبلوماسية الغربيّة في السنوات الخمس الأخيرة، فروسيا لم تساند أحداً على مدى السنوات الأخيرة، في وقت فاق فيه عدد زيارات الدبلوماسيين الأجانب والقادة والرؤساء (الغربيين) جميع المعدلات المعقولة".
ويعتبر أوستاليب أنّه "إذا أخذنا في الاعتبار عدد الناخبين الذين صوتوا للأحزاب التي تُعدّ نفسها ميالة لروسيا أو تتحدث عن تفضيل الاتجاه نحو روسيا الاتحادية، فسيكون لدينا أغلبية ساحقة".
ويأتي التصريح الأخطر على لسان زعيم الحزب الاشتراكي المولدوفي، إيغور دودون، الذي يوضح أنّ "حزب الاشتراكيين اتخذ موقفاً دقيقاً وواضحاً بأنّنا لن ندخل في تحالف مع الأحزاب الموالية لأوروبا، وسوف نناقش ونفاوض أولئك الذين يوافقون على الانسحاب من الاتفاق مع أوروبا والتحرّك نحو الاتّحاد الجمركي".
وفي قراءة تغذي نار الخلاف المولدوفي، تنقل صحيفة "فزغلاد" الروسية عن الباحث السياسي المولدوفي، سيرغي نازاريا، إشارته إلى أنّ "نجاح الاشتراكيين منطقي، فقد دافعوا بوضوح عن المصلحة الوطنيّة العامة، وعن الهوية المولدوفية، والعلاقات الوثيقة مع روسيا وفكرة العدالة الاجتماعية". ويؤكّد نازاريا لجوء القوى الحاكمة إلى "الموارد الإداريّة الواقعة تحت سلطتها لتحقيق النجاح، مقابل حرمان مئات آلاف الناخبين من التصويت، خصوصاً المولدوفيين المتواجدين في روسيا، إضافة إلى حوالي 150 ألفاً من المتقاعدين، الذين لم يبدّلوا بطاقاتهم الشخصيّة السوفييتية، كما رشوا الناخبين"، لافتاً إلى أنّ "وسائل الإعلام وقفت في مجملها الى جانبهم، في حين كانت المعارضة تفتقر عمليّاً إلى تغطية إعلامية".
وفي سياق متّصل، توضح إدارة الهجرة الروسيّة أن عدد المراكز الانتخابية التي افتتحت للمولدوفيين البالغ عددهم 700 ألف مهاجر، لم تتجاوز 5 مراكز، وفي ذلك "تصنيع للنتائج"، بحسب نازاريا، الذي يشير أيضاً إلى أنّ "حرمان حزب "باتريا" (الوطن) من الانتخابات انعكس على نتائجها، إذ كان بإمكانه أن يدخل البرلمان، وفق جميع استبيانات الرأي التي جرت، ويبدو أن جزءاً من ناخبيه امتنعوا عن التصويت، في حين صوّت جزء منهم لمصلحة الاشتراكيين". وتؤكّد صحيفة "فزغلاد" أنّه كان بإمكان حزب "باتريا" أن يحظى بنسبة تراوح بين 9 و13 في المائة من أصوات الناخبين.
في موازاة ذلك، لم يفت البعض الإشارة إلى وجود يد أميركيّة في تنظيم ميادين الاحتجاج، متجاهلة أيّ دور روسي في الانقسام المولدوفي، وهو ما يعرب عنه المدوّن الروسي الشهير أناتولي نيسميان، المعروف باسم "المريد"، بقوله في صفحته في "لايف جورنال": "المنتصرون شكليّاً، أي الذين حصلوا على أصوات أكثر من منافسيهم هم الاشتراكيون الذين يدعون إلى الانضمام للاتحاد الجمركي (مع روسيا)، ولدى الشيوعيين المولدوفيين وجهة نظر مشابهة. وهؤلاء، على الرغم من انتصارهم شكليّاً يبقون أقلية، وربّما لهذا السبب قرروا في السفارة الأميركيّة عدم تنظيم انقلاب جديد".