تعيش ثلاثة أحزاب سياسية مغربية كبيرة في الوقت الراهن "أزمة" على مستوى قيادتها، وهي "العدالة والتنمية" الذي يقود الحكومة بعد تصدره الانتخابات البرلمانية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، و"الأصالة والمعاصرة" (معارض) الذي جاء ثانياً في الانتخابات، ثم "الاستقلال" (معارض) الذي تبوأ المرتبة الثالثة.
حزب العدالة والتنمية لم يعرف طيلة مساره أزمة كالتي يعيشها خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي لم تنكشف خباياها وتداعياتها بعد، بالرغم من محاولات قياديين رسم الأزمة على أنها "ديمقراطية داخلية". واندلعت أزمة القيادة داخل "العدالة والتنمية" في خضم قرار العاهل المغربي، الملك محمد السادس، إعفاء الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران، من رئاسة الحكومة، إذ طفت على السطح مواقف وآراء تؤشر على مدى الأزمة التي دبت في أوصال "الحزب الإسلامي". واتخذت سيرورة الاختلافات داخل حزب العدالة والتنمية، في البداية، شكل الإدلاء بآراء من طرف قياديين، خصوصاً الذين لم يحظوا بحقائب وزارية، تعبر عن رفضها للمنهجية التي سلكها سعد الدين العثماني في تشكيل حكومته.
وعابت أصوات قيادية داخل الحزب الأغلبي على العثماني ما سمّته رضوخاً لإملاءات أطراف سياسية أخرى، خصوصاً حزب الأحرار، وقبول مشاركة حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان بنكيران قد رفضه بقوة. وانطلقت "الاتهامات" تارة خفية، وتارة معلنة، بين أعضاء داخل حزب العدالة والتنمية، وأفرزت المواقف المتراكمة تيارين اثنين، الأول تيار يناصر بنكيران ويدعمه، وتيار آخر يؤازر العثماني والسير في المنهجية الحكومية التي يقودها الحزب.
وبخصوص التيار الأول الداعم لبنكيران، فقد بدا جلياً أنه أحجم عن منح "الثقة" كاملة للحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية. وأظهرت قيادات فيه الكثير من المعارضة لقرارات ومواقف رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني. أما التيار الثاني داخل الحزب فيقوده وزراء العدالة والتنمية، ومن يدور في فلكهم من قيادات مساندة، ويجدون في رئاسة العثماني للحكومة استمراراً لتصدر الحزب المشهد السياسي في البلاد، ومرونة كانت ضرورية لتجاوز حالة الانسداد التي دامت زهاء ستة أشهر في فترة مفاوضات بنكيران مع الأحزاب لتشكيل الحكومة السابقة.
وفي سياق هذه التجاذبات داخل حزب العدالة والتنمية، والتي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي، وترجمتها التصريحات الصحافية، من دون أن تصل إلى حد "التمرد أو الانشقاق"، أثارت مسألة تجديد ولاية بنكيران على رأس الحزب سجالاً آخر لم ينته إلى اليوم. وانقسم أعضاء وأنصار العدالة والتنمية إلى فريقين، الأول يرغب بشدة في تولي بنكيران ولاية ثالثة، رغم أن القانون الداخلي لا يسمح سوى بولايتين اثنتين فقط على رأس هذه الهيئة السياسية، والثاني أبدى تبرمه من قيادة بنكيران الحزب لفترة ثالثة جديدة. الفريق الأول، الذي يتطلع إلى تجديد ولاية بنكيران من خلال إجراء تعديل في النظام الداخلي للحزب يتيح هذه الإمكانية، استند أساساً إلى ما يُنسب للرجل من أفضال على الحزب، وقدرته على إيصاله إلى صدارة المشهد الحزبي بالبلاد وقيادته الحكومة خلال ولايتين متتاليتين. ويتحدث مناصرو بنكيران داخل حزب العدالة والتنمية عن "زعامة" هذا القيادي، وشخصيته "الكاريزمية"، وقدرته على هزم خصوم الحزب، لا سيما حزب الأصالة والمعاصرة مرتين في انتخابات 2001 و2016، وهو الذي أعلن صراحة أنه جاء ليدحر الإسلاميين في البلاد، في إشارة إلى "إخوان بنكيران".
في المقابل، يتذرع رافضو الولاية الثالثة لبنكيران على رأس "العدالة والتنمية" بمبدأ "الديمقراطية الداخلية"، باعتبارها ثقافة متجذرة منذ ولادة الحزب، والخشية من تحوله إلى حزب "الزعامات الخالدة" مثل العديد من الأحزاب الأخرى.
لكن هناك من يرى أن مبرر رافضي ولاية ثالثة لبنكيران، إنما هو "حق يراد به باطل"، بالنظر إلى أن الخلفيات التي تقف وراء مناهضة زعامة بنكيران للحزب لولاية ثالثة، تكمن في الخشية من "تصادم" الحزب مع الدولة في حالة بقاء بنكيران زعيماً للحزب. ويرى هذا التيار من أعضاء الحزب أحقية في اختيار العثماني أو أحد المقربين منه لقيادة الحزب، من أجل وضع هذه الهيئة السياسية على سكة الحكومة، درءاً لأية خلافات قد تفضي إلى تهديد الانسجام بين أحزاب الأغلبية. هذه الخلافات داخل حزب العدالة والتنمية، التي بلغت مرحلة الانتقادات الصريحة من طرف قياديين لبنكيران، قابلتها قيادات أخرى بطريقتين، الأولى الإقرار بأن ما يجري داخل حزب "المصباح"، وهو الشعار الرسمي للحزب، يصل حد الأزمة والاحتقان، والثانية محاولة اعتبار ما يحصل عبارة عن خلافات في وجهات النظر لا ترقى إلى الأزمة الحزبية. بنكيران كان واضحاً أكثر من مرة عندما صرح أن حزبه يعيش أزمة سياسية هي الأخطر منذ تأسيسه قبل 40 سنة. وقال، في لقاء حزبي، إن "الجميع يعلم أن هناك أزمة على مستوى رئاسة الحزب وقيادته، وأنا أحاول أن أدبرها بالتي هي أحسن، في انتظار تسليم المسؤولية لشخص آخر". الطرف المقابل لا يصف ما يحصل داخل الحزب بكونه أزمة قيادة، بل يعتبرها مساراً سياسياً طبيعياً وصحياً، فالعثماني كثيراً ما أكد أن "حزب العدالة والتنمية لا يخبئ مشاكله الداخلية، وأنه حزب يعلي من شأن حرية الاختلاف في إطار الأخوة ووحدة الحزب" وفق تعبيره.