أزمة اللجوء تفضح عجز أوروبا: الكلمة لشعبويي القارة

24 يونيو 2018
مهاجرون أفارقة في ملقا الإسبانية (خيسوس ميريدا/Getty)
+ الخط -
أكثر من أي وقت مضى، يبدو الاتحاد الأوروبي ومشروع العمل المشترك للقارة العجوز، عاجزاً ومشلولاً. أزمة اللاجئين تفضح هذا العجز بأبشع الصور الممكنة، لينقسم الأعضاء الـ28 بين كارهين قوميين يمينيين للأجانب ولكل القيم الإنسانية التي يدّعي الاتحاد قيامه على أساسها من جهة، وبين مسؤولين يحاولون الحفاظ على ماء وجه هذه القيم الإنسانية لفرض سياسة أوروبية موحّدة من جهة أخرى.

لقد استبق رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، أحد رموز اليمين الشعبوي القومي الكاره للاجئين وللمشروع الأوروبي عموماً، "خلوة الأحد"، التي دعا رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، لعقدها اليوم في بروكسل، على خلفية الانقسام الأوروبي حيال قضايا الهجرة واللجوء، باجتماع مساء الخميس لدول "فيشغراد" (تضمّ دول تشيكيا وسلوفاكيا والمجر وبولندا)، وبحضور المستشار النمساوي سيباستيان كورتز.
يبدو هذا التكتل وكأنه يسابق الوقت للاستفادة من الارتباك الحاصل في حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتشديد مطالبه في ما خصّ سياسة الهجرة الأوروبية، لجهة رفض أي تعاون في هذا الموضوع من قبل مجموعة من دول أوروبا الشرقية وحتى الغربية (إيطاليا والنمسا) بناءً على نظرة يمينية قومية متطرفة، قبيل قمة الاتحاد في أواخر الشهر الحالي. مع العلم أنه في المجر، صوّت البرلمان لمصلحة قانون يقضي بسجن مَن يساعد مهاجراً أو لاجئاً على الدخول والإقامة، كما يحاصر منظّمات المجتمع المدني التي تساعد المهاجرين بفرض الضرائب الباهظة. أوربان سمّاه "قانون أوقفوا سوروس"، قاصداً البليونير جورج سوروس الذي يتهمه بدعم اللاجئين.

لقاءات ومباحثات ثنائية عديدة، صبغت المشهد الأوروبي، قبيل "لقاء الأزمة" يوم الأحد، وتمهيداً للقمة المقبلة، للبحث عن مخارج لـ"أزمة مصير"، حسب تسمية الباحث والمؤسس المشارك في مركز الفكر الأوروبي "مبادرة الاستقرار الأوروبي"، جيرالد كناوس، صاحب مبادرة اتفاق الاتحاد مع تركيا في عام 2016.

ويذهب كناوس في قراءة الانقسام الأوروبي ومخاطره على المستقبل، في حوار مع صحيفة "إنفارمشيون" الدنماركية، إلى الحديث عن أن ثمة تركيزا واضحا لبعض التكتلات الناشئة مع أزمة الهجرة على مقترحات حلول تتراوح بين زيادة أعداد قوة فرونتيكس (الوكالة الأوروبية لحراسة الشواطئ والحدود الخارجية لدول الاتحاد) بنحو 10 آلاف عنصر وإقامة معسكرات استقبال وبحث قضايا اللجوء خارج ما يسميه المنتقدون للاتحاد "حصن أوروبا"، وإقامة معسكرات ترحيل داخل أسوار "الحصن"، فضلاً عن تحقيق "الانغلاق والعنصرية على طريقة أوربان".

هذا المشهد المعقد، والذي يستدعي خلوة اليوم الأحد غير الرسمية، بمشاركة عدد من الدول الأوروبية، يدفع إلى مناقشة جادة لمقترحات إقامة تلك المعسكرات وبحوافز اقتصادية لدول جنوب المتوسط، وفي المناطق القريبة من "البقع الساخنة" (الحروب)، مع طرح إمكانية الاستجابة لإغلاق تام لمنافذ اللجوء وطرح "نظام قرعة" و"منح دراسية" لدراسة طلبات الآتين إلى معسكرات الاستقبال، بحسب ما يرشح قبيل اللقاءات الجماعية.



في الخلفية لم يتردد المستشار النمساوي سيباستيان كورتز، المتشدد مع تحالفه الشعبوي، في الإعلان صراحة أنه سيستخدم نفوذ بلده، برئاسته الدورية للمجلس الأوروبي، نهاية الشهر الحالي، للضغط من أجل تشديد سياسات الهجرة واللجوء في القارة ولو ضمن تحالفات مع ما يسميه "محور الراغبين".  كما لم يتردد المستشار النمساوي في إظهار إعجابه بسياسة التشدد الدنماركية "لجعل البلد أقل جذباً للاجئين والمهاجرين" والتي لا يراها كناوس، سوى "معاملة سيئة لتنفير الناس بحثاً عن مصالح وطنية خاصة، فيما تُرمى المشكلة على دول أوروبية أخرى، بمعنى نبقى ندور في حلقة مفرغة".

وفي السياق يبدو أن تحركات المستشار النمساوي، كورتز، مزعجة لبعض الأوروبيين، بمن فيهم ميركل. كورتز لم يرَ حرجاً في أن يلتقي يوم الأربعاء الماضي برئيس وزراء ولاية بافاريا، ماركوس سودر، من حزب ميركل الشقيق في حكومتها الفدرالية لبحث "وقف الهجرة". ما قاله رئيس وزراء بافاريا عن "رغبة بالتعاون مع النمسا في وقف التدفق عبر مئات الكيلومترات التي تحد البلدين"، وهي الحدود الكاملة لألمانيا مع النمسا، أمر لافت في الخلاف الألماني الداخلي. وهو يعزز موقف كورتز أكثر من موقف المستشارة الألمانية ميركل التي تجد نفسها على وقع الأزمات التي تعصف بمعسكر المحافظين في ألمانيا، مخيّرة بين "حلول داخلية" لقضية اللاجئين، كما يطالب وزير داخليتها في الائتلاف الحكومي الضيق بين يمين ويسار الوسط، هورست سيهوفر، أو التوصل خلال أقلّ من 10 أيام إلى "حل وسط أوروبي"، والأخير خيارها المفضّل، بدعم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. مع العلم أن سيهوفر يضغط لتشديد قوانين اللجوء، وإعطاء كلّ ولاية حقّ رفض اللاجئين في معزل عن السياسات الفدراليّة.

القضية التي تشغل بال الأوروبيين لا تتعلق ببقاء أو ذهاب المستشارة ميركل بل ترتبط بالتهديدات التي تواجه البيت الأوروبي الداخلي نتيجة الجدل المستمر والتراشق بين قادة الدول، بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني. والأهم ضعف موقع ومواقف قوى أوروبا التقليدية لمصلحة أخرى ناشئة ومتمردة، كما في حالة دول وسط وشرق أوروبا، والجيل اليميني الجديد غربياً.
وما يقلق بعض القوى والسياسيين الأوروبيين أيضاً سعي المستشار النمساوي لتشكيل ما يسمى "محور الراغبين". وتسمية "محور" تعيد إلى الذاكرة محور الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).

وإذا كان الصبر الداخلي في حكومة ألمانيا يكاد ينفد، فإن صبر حكومات أخرى يبدو وكأنه قد نفد منذ وقت طويل، وخصوصا لدى قوى وشخصيات كانت تشكل سابقاً معارضة "متشددة" إزاء أي تسامح مع اللاجئين، وأصبحت اليوم في الحكم، أو مؤثرة في سياسات دولها. والنمسا وإيطاليا ليستا وحدهما في هذا السياق. لهذا يمكن فهم لماذا استبعدت ميركل إمكان التوصل إلى "حلّ" أوروبي حول المهاجرين في قمة الاتحاد الأوروبي في 28 و29 يونيو/حزيران الحالي علماً أن بقاءها السياسي يعتمد على هذا الحل. وقالت ميركل خلال زيارة إلى لبنان "نعرف أنه لن يتم التوصل إلى حل على مستوى الدول الـ28 الأعضاء من أجل حزمة شاملة حول مسائل الهجرة" خلال قمة بروكسل.



أساساً منذ سنوات، وتحديداً بعد التدفق الكبير للاجئين في 2015، سعى الاتحاد الأوروبي لفرض "سياسة تقاسم" عادلة للاجئين بين دوله الـ28، ودخل في اتفاقية تعرّضت لهزات أحياناً مع تركيا منذ عام 2016. ويبدو أن جردة الأحزاب، المعارضة-الحاكمة، من إيطاليا جنوباً حتى إسكندنافيا شمالاً، تجمع على "فشل" آخر في سياسة الهجرة.

ولهذا يبدو اليوم أن أوروبا المتجهة أكثر لتحالفات أخرى، متعددة وثنائية، تركز في أغلبها على اتفاقها حول ضرورة فرض مزيد من التشدد في سياسات الهجرة، سواء بحق من استقبلتهم، أو من في طريقهم.

ويُنظر، على وجه التحديد، بقلق إلى ما يجري في إيطاليا في ظل حكم الشعبويين خصوصاً بعد قرار إغلاق موانئ إيطاليا بوجه السفن التي تنقذ المهاجرين، وهو ما لخصه وزير الداخلية الإيطالي بقوله "سفن المنظمات غير الحكومية لن تطأ التراب الإيطالي" وذلك بعد منع رسو سفينة الإنقاذ "أكواريوس" في إيطاليا وتكرار الأمر مع سفينة منظمة "لايف لاين". مع ما يبرزه هذا التوجه من قلق خفي في أن "يصبح الكرم الإسباني الاشتراكي عبئاً على الجيران أيضاً"، وذلك بعد أن سمح رئيس الوزراء الإٍسباني بيدرو سانشيز باستقبال السفينة التي ظلت عالقة في البحر لأيام نتيجة رفض إيطاليا أو مالطا استقبالها.

تشدد سالفيني لا يقتصر فقط على اللاجئين والمهاجرين بل يطاول الغجر أيضاً. فهو جاهر بأنه يعمل من خلال "وزارة الداخلية على إعداد ملف عن وضع الغجر في إيطاليا.  منذ مبادرة روبرتو ماروني (نظيره الأسبق والقيادي في حزبه"، مضيفاً "ها نحن نعود الآن. دعنا نسميها تسجيلًا إسكانيا أو صورة فوتوغرافية لمعرفة من هم الروما وأعدادهم. وأردف "للأسف، (غجر) الروما حملة الجنسية الايطالية، سيبقون هنا".
 كما أعلن رئيس الوزراء الإيطالي الجديد جيوزيبي كونتي، أنه "سيتم استبعاد مسودة الاتفاق بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة، بعد اعتراضات الحكومة الجديدة في روما على الأحكام الأساسية".

وذكر كونتي في تغريدة عبر موقع "فيسبوك"، يوم الخميس الماضي، أنه "تلقى مكالمة هاتفية من ميركل والتي كانت قلقة بشأن احتمالية مقاطعته قمة دول الاتحاد الأوروبي". وكان المسؤولون في إيطاليا أعاقوا الإجراءات في مسودة الاتفاق التي تدعو إلى فرض حملة صارمة على "الحركات الثانوية" للمهاجرين داخل الاتحاد الأوروبي. وذكر رئيس الوزراء الإيطالي أن "ميركل أوضحت أنه كان هناك سوء فهم بشأن مسودة الاتفاق الصادرة وأنه سيتم استبعادها". وأضاف أن "قمة الأحد سوف تشمل مناقشة اقتراح إيطالي حول الهجرة إلى جانب مقترحات دول أخرى".




ورغم الانتقادات الحقوقية، يصر بعض القادة الأوروبيين على بعض الحلول، القديمة - الجديدة، بالاستفادة من التجربة الأسترالية، وهو مطلب دنماركي ويميني هولندي متشدد منذ سنوات، بوضع مقترح إنشاء معسكرات خارج أوروبا على طاولة البحث هذه الأيام، على نار غير هادئة، بتشجيع من عدد من دول أوروبا، بما فيها النمسا بطبيعة الحال، وإيطاليا ودول تحالف "فيشغراد"، المطالبة بسد ثغرة ألبانيا والبوسنة هذه المرة، بدل مسار البلقان سابقاً، وبموافقة البافاريين، وبنصف إيماءة فرنسية موافقة، وغيرهم في "محور الراغبين".

وكله بموازاة فرض مزيد من قوات "وكالة حراسة الحدود البحرية الأوروبية" (فرونتيكس)، وتشديد سياسات الترحيل، بربط العلاقات الأوروبية مع دول المنشأ اقتصادياً ودعم مشاريع واستثمارات، كما يطالب اليمين في أكثر من بلد، وباستقبال دول المنشأ سريعاً مواطنيها المرفوضين والمرحّلين عن أوروبا، ومحاولة فرض ما يشبه اتفاق شبيه بالتركي - الأوروبي مع دول "الأقاليم الساخنة". وكورتز النمساوي متحمس منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي لفكرة "فرض مناطق آمنة لإعادة اللاجئين في الشرق الأوسط"، وفقاً لما نقلت عنه "دوتشيه فيله" الألمانية في حينه.



وتسعى إيطاليا، أيضاً ضمن البحث عن حلول وسط، قبيل القمة في 28-29 الشهر الحالي، إلى تحالف آخر. رئيس وزراء الدنمارك، لارس لوكا راسموسن، يكرّر أيضاً رؤيته أن "الحل لن يكون ضمن الاتحاد الأوروبي". وحتى لا ينفرط العقد يناقش الأوروبيون اليوم الأحد وفي 28 و29 الشهر الحالي، بعض المقترحات "المشتركة"، ومن بينها إقامة معسكرات استقبال، خارج الحصن الأوروبي، ومعسكرات ترحيل من داخله، وسعي لتعديلات في اتفاقية دبلن للجوء، ومنع اللجوء بطريقة "خيار من اللائحة"، أي قطع 6 دول للوصول إلى دولة ما في الشمال، مع تقديم دعم مالي لدول الاستقبال في الجنوب. وهي من المساعي التي يعمل عليها يمين الوسط الدنماركي، ويسار الوسط السويدي، بحسب معلومات "العربي الجديد"، بسعي لتشمل ألمانيا والنمسا وإيطاليا وفرنسا، "قبل نهاية العام الحالي".

فحتى السويد، التي وُصفت في عام 2015 بأنها "الأكثر انفتاحاً على اللاجئين" اعترفت فيها وزيرة المالية ماغدالينا أندرسون، من يسار الوسط الحاكم، بأن "سياسة الدمج فشلت، وهي أيضاً لم تنجح قبل 2015". وفشل الدمج قضية كبيرة في الحوارات والجدل الداخلي في تلك الدول لتمرير وتبرير حزم تسديد القوانين، وهي من الأمور التي تصب في مصلحة اليمين المتطرف في دول الشمال على سبيل المثال. ويسعى بعض الأوروبيين، بمن فيهم السويديون لجعل "القمة غير الرسمية في سالزبورغ (النمسا)"، في سبتمبر/أيلول المقبل، بعنوان "مكافحة الهجرة غير الشرعية بتأمين الحدود الخارجية لأوروبا"، منصة لاتفاق آخر ينجم عن مفاوضات ثنائية وثلاثية من الآن وحتى ذلك الاجتماع، في سياق البحث عن مخارج لمأزق متعمق. فما تثيره هذه الأزمة، ومحاولات البحث عن حلول، لدى معارضي ومؤيدي الاتحاد الأوروبي، أنه "ناد يعيش لحظات عصيبة"، أو كما تصفه إيطاليا "غير مهتم بالتضامن البيني".

يضاف إلى كل التطورات السلبية أن قوى أوروبية مشككة ورافضة لفكرة بقاء دولها في الاتحاد الأوروبي، إما باتت في الحكم في بلادها أو تضخمت قوتها المؤثرة على السلطة. أمر يقلق قوى أخرى، من ذهاب أوروبا الآن نحو مزيد من المحاور والاصطفافات، بما يضعف وحدة موقفها في ظل أزمات قوية وصعبة، ليس أقلها الأمنية في أكثر من مكان، والاقتصادي والتجاري مع حليفها التاريخي على الضفة الأخرى للأطلسي. وفي السايق ينظر بكثير من الشك لروابط قوى قومية أوروبية متشددة مع الرئيسين الأميركي والروسي، دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، على حساب قيادات دولهم.



الانقسام الأوروبي هذه الأيام لا يمكن قراءته سوى كـ"فشل ذريع لسياسة المحاصصة التي لم يجر تنفيذها، بل حتى الاتفاق مع تركيا مهدد بعدم التزام بعض الأوروبيين بتعهداتهم، كما في حالة النمسا"، بحسب الباحث والمؤسس المشارك في مركز الفكر الأوروبي "مبادرة الاستقرار الأوروبي"، جيرالد كناوس.

باختصار أزمة أوروبا ليست مع حوالي 200 ألف لاجئ وصلوا إليها هذا العام، فمقارنة بالعام السابق، حين وصل 729 ألف لاجئ، يعتبر ذلك انخفاضاً كبيراً، لكن مشكلتها، فيما خص اللجوء، أنها، على صعيد دولها الوطنية، لم تستطع تطبيق شعار ميركل "نعم يمكننا" (المقصود هنا أنه يمكننا اعتماد سياسة متسامحة أخلاقياً من دون التسامح أمنياً مع قضية اللاجئين)، ففشل سياسات الدمج والتقاسم يقوي من مواقف اليمين القومي المتشدد، وينزع الكثير عن معسكر الليبراليين ويسار الوسط. وإذا أضفنا أن أوروبا في طريقها إلى انتخابات البرلمان الأوروبي، بعد 12 شهراً، تشارك فيها حتى القوى المعارضة للاتحاد، فإن حجم الخوف يتسع لدى الأحزاب التقليدية من اكتساح معارضي الفكرة على امتداد أوروبا.



المساهمون