أزمة الكتلة الحرجة في مصر
على الرغم من أن الأجواء التي يعيشها المصريون والمصريات، حالياً، تشبه الأجواء التي عاشوها في عام 2010، والتي سبقت الحراك الثوري في يناير/كانون الثاني 2011، من إغلاق محكم للمجال العام، وقمع لكل صوت معارض، وعدم الاكتراث بضجيج المعارضة، أو بتململ المواطنين من غلاء الأسعار، وتغول الأمني على مساحة الحريات العامة والشخصية، إلا أن تشكيل الكتلة الحرجة التي يمكنها أن تحاكي كتلة 25 يناير لصنع حراك ثوري ملتحم بالجماهير من الطبقات كافة يبدو بعيداً. فقد أصدرت السلطة الحاكمة في مصر بعد "3 يوليو" قرارات عديدة، أدت إلى إحداث تغيرات حادة، مسّت حياة الطبقات المتوسطة والفقيرة بشكل مباشر، كان من أهمها الرفع الجزئي للدعم عن أسعار المحروقات (السولار، البنزين، الغاز الطبيعي، الكهرباء، المياه)، والذي كان يعتبر خطاً أحمر، لم يكن باستطاعة كل من نظام حسني مبارك وحكومة جماعة الإخوان المسلمين الاقتراب منه، تفادياً للغضب الشعبي، إلا أن حكومة السيسي استطاعت أن تقوم به، من دون أن يؤدي هذا إلى موجة غضب منظمة، ولم تستطع المعارضة، على اختلاف أطيافها، أن تحشد الجماهير العريضة المتضررة من قرار كهذا، للمطالبة بإسقاط النظام، أو تغيير الحكومة، أو حتى تغيير القرار. وعلى الجانب الآخر، ضيّقت حكومة النظام الحالية على مؤسسات المجتمع المدني، بتعديل قانون العقوبات بمرسوم صدر في 21 سبتمبر/أيلول 2014، حيث يغلظ العقوبة على تلقي تمويل أجنبي، وترك تحديد الأنشطة، باعتبارها ضارة بالمصلحة القومية من عدمه ولأجهزة الحكومة. وفي هذه الحالة، ووفقاً للقانون، يكون أعضاء هذه المؤسسات عرضه للسجن المؤبد والغرامة التي تصل إلى 500 ألف جنيه مصري، وإمكانية الإعدام إذا كان متلقّي التمويل موظفاً عاماً، ولم تتمكن قوى المجتمع المدني من تعبئة المجال الجماهيري للتصدي لمثل هذه المحاولات، لتعميق القمع ومد اليد الأمنية لمجالات الحياة كافة، وترك توصيف الفعل، بل وحتى النية لأجهزة الدولة السلطوية!
في الحقيقة، مع عزل الدكتور محمد مرسي من الحكم في 3 يوليو/تموز 2013، دخلت القوى الثورية في أزمة كبيرة، ويعود فشل القوى المعارضة لنظام 3 يوليو في تكوين الكتلة الحرجة إلى عدة أسباب، تتعارض كلها مع المقومات التي بُنيت عليها كتلة يناير الحرجة، وهي:
الإقصائية الداخلية في الجسد الثوري: بدا ذلك واضحاً في عمل تكتلات الحراك الثوري، فالحركات والأحزاب الثورية، من اليسار والوسط، رفضت الدخول في أي تنسيق مع أي من حركات الإسلام السياسي، وخصوصاً جماعة الإخوان والشباب المنتمي لها. وبالتالي، كان تحرك "التيار الثالث"، ومن بعده "جبهة ثوار"، منذ مولده تياراً إقصائياً لشباب الإخوان المسلمين، باعتبارهم ينتمون الى حركة لا يمكن الوثوق فيها، وفي موقفها المبدئي من قضايا الحريات والديمقراطية. وقد وقع شباب كثيرون في هذا التيار في فخ الإقصائية، وبالتالي، كان دفاعهم، من البداية، عن معتقليهم من دون ذكر لمعتقلي ومعتقلات التيار الإسلامي، الأمر الذي أدى، في النهاية، إلى استفادة النظام من هذا التشرذم في الصف الثوري ودخول الجميع تحت طائلة الاعتقال والتنكيل من دون استثناء. وقد كرر كثيرون من شباب هذه الكتلة ضرورة اعتذار حركة الإخوان المسلمين عمّا قامت به من أخطاء سياسية في فترة حكمها البلاد، إلا أنهم لم يروا أنهم، أيضاً، وقعوا في الخطأ السياسي، بل وتورط بعضهم في الجنائي أيضاً، في وقوفهم مع إطاحة الحكم المدني، لصالح توغل العسكري، وإحكام سيطرته، وموافقتهم بالصمت، أو بالمباركة على المجازر التي تمت، بعد ذلك، لأنصار محمد مرسي، بشكل ناعم وبغطاء مدني!
على الجانب الآخر، يقع شباب جماعة الإخوان المسلمين في مأزق حقيقي، فعلى الرغم من مشاركة كثيرين منهم في مظاهرات ما بعد الموجة الأولى لثورة 25 يناير في أحداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء، مخالفين بذلك القرارات الإدارية الصادرة إليهم من النخبة الحاكمة لمكتب إرشاد الجماعة، إلا أنهم، حتى هذه اللحظة، لم يستطيعوا توجيه نقد حقيقي لقياداتهم التي كانت وراء الأزمة التي وقع فيها الجميع. ومن ناحية أخرى، لم يتبرأوا من هذه القيادات التي وضعت كثيرين من إخوانهم في مواجهة مبكرة مع شباب التيارات الأخرى في أحداث مجلس الشعب 2012، ثم في أحداث الاتحادية 2013. في الواقع، أزمة شباب الإخوان تقع في عدم قدرتهم على الخروج عن الانصياع لقياداتٍ اتخذت من القرارات ما أدت إلى وقوع الجماعة في محنتها الحالية، وتعرض أعضائها للاعتقال والتعذيب والاغتصاب على يد الأجهزة التي أعلنت القيادات نفسها ثقتها فيها، وضربت عرض الحائط بنصائح هؤلاء الشباب، وشباب حركات الوسط واليسار.
إن مشكلة الإقصائية، وادعاء غير ذلك لا تزال ملاصقة لتفكير الحركات الثورية، فالكل يتهم الآخر بالإقصائية، الدينية والمدنية، والكل يدعي ولاءه لقيم الحرية والعدالة بشكل مطلق، إلا أن الواقع يشهد أن هذه الكتل التي كان في تجمعها وقبولها لبعضها مع الاختلاف الفكري نجاحاً لإطاحة مبارك تعاني مع عدم قدرتها على الالتحام معاً، أو حتى على الأقل التنسيق، هذا التنسيق الذي، بحدوثه، قد يؤدى إلى التحام باقي أفراد الشعب من الطبقات المتضررة من سياسات النظام الحالية.
-أزمة الخيال الثوري: تعاني قيادات الحركات الثورية الشبابية، والتي كان لها أثر مهم في عملية التحرك والمناورة وإنهاك قوى الأمن في 25 يناير/كانون الثاني 2011، وما تلاها من مظاهرات أزمة، في قدرتها على الخيال الثوري، والخروج من صندوق 25 يناير. وحقأ، كسرت هذه القيادات الشابة، والتي قادت الحراك الثوري، قاعدة أن مبارك لا يمكن إسقاطه، وبناء قاعدة في المخيال المصري، بل والعربي كله، وهي قاعدة الحرية وكسر حاجز الخوف من رأس النظام، بل ومن النظام برمته. ولهذا السبب، لا تزال أجهزة الأمن في كل الدول العربية تصاب بالرعب من أي مظاهرة طلابية، أو عمالية، لمعرفتها أن الخوف قد كُسر في قلوب الجماهير، وأن إعادته لا تعني فقط السيطرة على وسائل الإعلام، بل التمادي في إجراءات القمع فترة طويلة، وهذا ما لم تنجح فيه السلطات بعد.
إذن، قد يكون من الأجدر لهذه القيادات الشابة التي لازمت قيادات الستينيات والسبعينيات (عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد البرادعي وحمدين صباحي)، وأصيبت ببعض أزمات هذه القيادات أن تترك المسرح لقيادات أصغر سناً، وأكثر قدرةً على الحلم والخيال والإبداع الثوري، فالآليات الثورية لا يمكن أن تستخدم مرتين، وتعطي النتيجة نفسها. وبالتالي، إن كان هناك أمل في حراك ثوري جديد، لا يمكن أن يتم من استنساخ آليات 25 يناير 2011. وبالتالي، قد يكون الوقت حان لتصعيد أجيال جديدة إلى قيادة الحركات والأحزاب التي خرجت من رحم تجربة 25 يناير، لتقود الحراك الجديد. وهنا، يكون، أيضاً، على شباب حركة الإخوان المسلمين التفكير ملياً في مثل هذا الخيار، فلا يعني تنحية قيادات الجماعة، المعتقلة حالياً في سجون النظام، "قلة أدب" وخروجاً عن العهد، بل يعني دفع دم جديد لقيادة حركة محورية، شاخت عقول قيادتها، قبل أعمارهم، عن فهم ومواكبة المستجد من الواقع. وأيضاً، لابد من الانتباه إلى أن المجموعات الشابة التي عملت مع قيادات المرحلة السابقة، وتولّت مناصب تحمل مشكلات هذه القيادات من ضيق الأفق، وتلاشي الخيال السياسي. وبالتالي، قد يكون مناسباً البحث عن المجموعات الشابة التي قدمت حلولاً قبل الطوفان، ولم يُستمع إليها بل وتم تهميشها.
أزمة الخطاب الثوري: على الرغم من محاولة مجموعات شبابية عديدة، أخيراً، تثوير الجماهير، وضمها إلى صفها، من خلال مجموعة فعاليات على الأرض، كما فعلت حركة 6 إبريل وشباب حركة ضد الانقلاب القريبة من جماعة الإخوان، إلا أنها فشلت في جذب القطاعات غير المؤدلجة إلى صفها، ولا تزال تلك القطاعات العريضة خارج دائرة الثورة، على الرغم من تململها من سياسات النظام الحالية التي تصب في مصلحة طبقة طفيلية من رجال الأعمال وكبار الموظفين، وتهدد الطبقة الوسطى بكل درجاتها. والمتابع لثورة 25 يناير 2011 يرى أنه كان لانضمام الطبقة الوسطى، والتي تعتبر خزّان الثورة، غير المؤدلجة، أثر جوهري في ترجيح الكفة لصالح الحراك الثوري آنذاك، وذلك لأنها رأت في الخطاب الثوري، آنذاك، تشابكاً مع مصالحها وقيمها من إدماجية للجميع، واحترام للخصوصية، ومطالبة لإصلاح الأوضاع الاقتصادية، وهذا ما لا يحمله الخطاب الثوري الحالي، فهو إما خطاب خارج السياق يدعو إلى الحفاظ على الهوية الإسلامية، وغير مفهوم تحريك مثل هذه القضية، في وقت تقع فيه الأمة في أزمةٍ لا تتعلق بهويتها، وإنما بمواكبتها للمعاصرة، أو خطاب يتحدث عن الحرية بشكل تجريدي، غير مرتبط بالمطالب المجتمعية للمجتمع.
إذن، معادلة الواقع في مصر تنتج في النهاية عدم إمكانية تشكل الكتلة الحرجة في المديين، القريب والمتوسط. وطالما بقيت الأسباب المذكورة أعلاها بمجموعها، طالما بقي الأمل في حراك ثوري، يغير الأوضاع في مصر، نحو الأفضل للمجتمع، وليس للنخبة، بعيداً، أو يكاد مستحيلاً.