على مدار الشهور الماضية، انشغل الشارع السوداني بقضية تراجع قيمة عملتهم أمام الدولار، وما ترتب عليه من ارتفاع معدلات التضخم، حيث تراوح سعر الدولار بالسوق الموازية ما بين 38 إلى 40 جنيها، وأعلنت الحكومة عزمها تخفيض مخصصات الدعم على سلع أساسية مثل الوقود والخبر، وهي إجراءات صادمة في ظل اقتصاد يصنف على أنه من الاقتصاديات الأقل نموًا في العالم، فضلًا عن كونه مدرجًا ضمن أفسد 10 اقتصاديات على مستوى العالم، وفق نتائج مؤشر الشفافية الدولية على مدار السنوات الماضية.
وجاءت ردود الفعل في الشارع رافضة للإجراءات مما ترتب عليها تظاهر بعض المواطنين في أماكن مختلفة، خاصة في الجامعات، وتزداد ردود الفعل الغاضبة بعد استكمال الحكومة برنامجها لتحسين أوضاعها المالية، فيما يتعلق بحجم الديون، أو عجز الموازنة.
والملاحظ أن هناك تقديرا غير سليم لسعر الصرف الملائم لسياسة التحرير في السودان، فالحكومة كلما أعلنت عن سعر، صعدت السوق السوداء لأسعار أعلى، ومؤخرًا أعلنت الحكومة عزمها وصول السعر الرسمي إلى 30 جنيهًا للدولار، إلا أن ذلك يتطلب جهودا أخرى مكملة لإعلان أسعار الصرف، مما يؤدي إلى وقف هذا النزيف في اقتصاد بلد فقير، وسوف يكون الضحية في النهاية الفقراء الذين يمثلون القطاع الأكبر، حيث بلغت نسبة الفقر 36.1% عام 2017.
وفي كل الأحوال فإن الأمر لا يخرج عن رغبة الحكومة في الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ليكون بمثابة مكمل مع ما تم من رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية الأميركية، خاصة ما يتعلق باندماج الجهاز المصرفي في النظام العالمي.
وسعي الحكومة لتحسين وضعها المالي مطلوب وإيجابي، لكن لا يكون ذلك بمعزل عن تحسين باقي مكونات الاقتصاد، ولا يكون ذلك لمجرد تلبية شروط المؤسسات المالية الدولية، وعلى حساب الأوضاع الاجتماعية لشعب يعاني الفقر مثل السودان، والملاحظة المهمة أيضًا، أنه لا يراعى وجود فترة انتقالية، ففجأة وجد المواطن الأسعار تتحرك بشكل كبير، في حين بقيت الأجور كما هي أو تزيد بمعدلات لا تتناسب مع الزيادة في الأسعار.
ومن الصعوبة الحديث عن حماية اجتماعية في اقتصاد بلد فقير مثل السودان، لم يملك أن يوفر حماية اجتماعية للفقراء في السنوات السابقة، فما بالنا في ظل إقبال الحكومة على تطبيق إجراءات اقتصادية قاسية؟ هنا الحديث عن دعم نقدي أو تبني شرائح معينة من الشعب السوداني بالرعاية يفتقد إلى المصداقية، في ظل أداء الاقتصاد خلال الفترة الماضية.
خطر المضاربات
يعيش الاقتصاد السودانى على مدار الفترة الماضية مخاطر ممارسة المضاربات في مجالات عدة مثل الأراضي والعملات، مما يكرس لمزيد من سوء توزيع الثروة في البلاد، ويقلص من القاعدة الإنتاجية، فهوامش الربح المتحققة من المضاربة تغري أصحاب الثروات للانصراف عن الأنشطة الإنتاجية والخدمية، ومن هنا نجد أن أداء الناتج المحلي الإجمالي البالغ 95.5 مليار دولار بالأسعار الجارية في 2016 يغلب عليه مساهمة قطاع الخدمات بنسبة 50.2%، والزراعة 30.1%، والصناعة 19.7%.
وحتى تتضح الأمور، فالسودان تخلو صادراته المتواضعة من وجود مساهمة ملموسة للمنتجات الصناعية، فحسب بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي السوداني، تبلغ الصادرات غير البترولية في 2016 نحو 2.7 مليار دولار، وكلها تخص المواد الخام التعدينية والزراعية، ولا تساهم السلع الصناعية إلا بـ 3.6% من إجمالي الصادرات.
بينما الواردات البالغ قيمتها 8.3 مليارات دولار في 2016، تخص النسبة الأكبر منها السلع الصناعية 21%، والآلات والمعدات 19.4%، ووسائل النقل 11%، بينما تستورد البلاد مواد غذائية بنسبة 21.3% من إجمالي واردتها، وهو ما يعد دلالة واضحة على الأداء السلبي للاقتصاد، الذي يعد اقتصادًا زراعيًا بالدرجة الأولى، بل والأدهى أن معظم الاستثمارات الأجنبية التي تلقاها في السنوات الماضية أتت في مجال القطاع الزراعي.
بناء قاعدة إنتاجية
سوف تنصرف أجندة صندوق النقد الدولي، والتي تسعى الحكومة الحالية لتنفيذ أكبر جزء منها قبل الجلوس على مائدة التفاوض، إلى التركيز على السياسات النقدية والمالية، دون أي اعتبار للمقدرات الاجتماعية السلبية لهذه السياسات، من ارتفاع البطالة والفقر وزيادة معدلات التضخم، وانخفاض القيمة الحقيقية للمدخرات.
لكن الجانب الأهم الذي ينبغي أن تأخذ به الحكومة جنبًا إلى جنب، هو بناء قاعدة إنتاجية تصلح الخلل في الناتج المحلي، بحيث تحقق أكبر نسبة ممكنة من الاكتفاء الذاتي من احتياجات البلاد من الغذاء، وأن تتبنى سياسات محفزة لتشجيع الإنتاج، عبر النظام الضريبي، وهنا عليها أن تهمل وصفة صندوق النقد بالعمل بنظام الضريبة الموحدة.
ويمكنها تطبيق نظام ضرائبي يمكن من فرض نسب أكبر على أنشطة المضاربة، والأنشطة التجارية سريعة دوران رأس المال، وأن تخفض الضرائب على الأنشطة الإنتاجية كثيفة العمل، لتقليل نسبة البطالة البالغة 20% في 2017، وأن تقدم حافزًا ضريبيًا للأنشطة ذات القيمة المضافة العالية، مثل إنتاج التكنولوجيا، وأن تفرض ضرائب أقل على الأنشطة الموفرة للطاقة، أو تلك التي تستخدم الطاقة النظيفة من المصادر الطبيعية مثل المياه أو الطاقة الشمسية أو الرياح.
كما أن سياسة السودان في مجال الاستثمار الأجنبي المباشر، لا بد أن يعاد النظر بها، لتمثل مساعدًا مهمًا في أجندة التنمية، وليس اعتبار البلاد مجرد مزرعة لغيرها من البلدان، أو أنها مجرد مصدر للمواد الخام، ولا بد أن تعمل السياسات الاقتصادية على جذب الاستثمارات الأجنبية في مجالات الصناعة، وتلك التي تساهم في خلق فرص عمل، وتزيد الصادرات، وتجلب تكنولوجيا، وليس مجرد زراعة مساحات كبيرة من الأراضي بالمحاصيل، التي لا يستفيد منها المواطن بشيء، بدليل استحواذ الواردات الزراعية على 21% من إجمالي الواردات.
إن أجندة الاستثمار الأجنبي المباشر في السودان لا بد أن تحتوي شروطًا جديدة تلزم المستثمر الأجنبي بتشغيل أعداد مقبولة من اليد العاملة المحلية، وكذلك استقدام النقد الأجنبي للبلاد، والعمل على طرح نسبة من الإنتاج في السوق المحلي، بما يؤدي إلى تقليص العجز في ميزان المدفوعات، ويقلل الطلب على العملات الأجنبية.
مكافحة الفساد
ليس معقولًا أن تعلن أي حكومة تطبيق برامج للاصلاح الاقتصادي، ويكون الفساد هو الحصان الرابح في مضمارها الاقتصادي والاجتماعي، فالسودان تأني في المرتبة 170 من بين 176 دولة شملها المؤشر في 2016، وهو ما يعني أن الفساد متجذر في المجتمع، لأن هذا التوصيف لم يتغير منذ سنوات.
ويصبح الحديث عن إصلاح نقدي أو مالي نوعًا من العبث، ما لم تقم الدولة بتطهير مؤسساتها من الفساد، وبخاصة جهازها الإداري، ومؤسستي الضرائب والجمارك. ومواجهة الفساد سيكون لها مردود إيجابي على الأداء الاقتصادي بشكل عام، وعلى موارد الدولة بشكل خاص، كما سيحسن من مناخ الاستثمار، وشعور المستثمر المحلي أو الأجنبي بأن هناك دولة قانون، تمكنه من ممارسة نشاطه بشكل أفضل، بل وتدفعه لزيادة استثماراته.