11 نوفمبر 2023
أزمة الأزمة في السودان
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
أكبر مشكلة تواجه السودان حالياً ليست فقط هي أزماته المتداخلة من سياسية - اقتصادية، واقتصادية - سياسية، وداخلية - خارجية، إلخ. بل هي أن المسؤولين عن الأزمة لا يشعرون بوجودها ولا يرونها، فضلاً عن أن يتحملوا المسؤولية عنها وعن إيجاد الحلول لها. ولعل الأصح أن يقال إنهم لا يريدون رؤيتها، ويفضلون العمى والتعامي، ما يجعل من الصعب الدخول في حوار حول الأزمة مع من لا يعترف بوجودها من الأساس. وقد تم تشكيل آليات الحكم، بحيث تكرس هذا التعامي، فكل المقرّبين من القيادة العليا هم من جماعة "نعم، نعم"، بعد أن تم استبعاد كل من لديه أقل نزعةً لتنبيه الغافلين إلى طرفٍ من الحقيقة عن بلدهم وأنفسهم.
وعليه، لا توجد حالياً عند القوم في السودان أزمة وقود، ولا أزمة انهيار عملة، ولا كارثة تضخم، ولا أزمة سياسية، ولا حروب تدور رحاها، ولا نظام حكم يتكوّر على نفسه، ولا يخاطب سواها. وهذا الأمر يخلق إشكالية كبرى في الحوار والتخاطب، وحتى في مساعدة النظام في الخروج من ضائقته، والبلاد من محنتها. ذلك أن الأزمة الآخذة بخناق البلاد حالياً ليست مثل سابقاتها، بسبب نفاد رصيد البلاد من الأحلام والآمال والأوهام. ففي السابق، كان من الممكن التعلق برجاء في تغييرات مهمة، مثل إنهاء الحرب في الجنوب، أو بداية إنتاج النفط، أو المصالحة الوطنية، أو رفع العقوبات الأميركية، أو الحوار الوطني، أو ولاية رئاسية جديدة، أو تدخل خارجي، أو معارضة سلمية أو مسلحة.
أما حالياً فقد نضب معين التوقعات، فليس هناك مجهود سلام قائم، لأن الحكومة لا تعترف
بوجود نزاعاتٍ مسلحة في الأساس، وتؤكد أن ما بقي من أعمال التمرّد المسلح في أطراف البلاد لا يستحق عناء المفاوضات. وليس هناك توقع بتحسن أحوال الاقتصاد برفع العقوبات الأميركية التي رفعت بالفعل. وليس هناك توقعات بتحسن علاقات النظام مع الدول العربية الكبرى، وجيرانه الأفارقة، لأن العلاقات مع الكل، والحمد لله، سمن على عسل. ولا يوجد أمل في المعارضة، ولا وهم بتدخل خارجي. ليس هناك انتظار لحوار وطني، لأن النظام يزعم أنه أنجز الحوار كما أنجز السلام، على الرغم من أنه كان يحاور نفسه، ولم يتفق معها، كما نرى من حادثة إقالة وزير الخارجية، إبراهيم غندور، في شهر إبريل/ نيسان الماضي، بعد تصريحات برلمانية، على الرغم من أن الرجل مشهور بأنه لا يعرف كلمة غير نعم. وليس هناك انتظار لتغيير محدود في القيادة، بعد أن أوحى تعيين رئيس وزراء مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس أن أمر الخلافة داخل النظام قد حلّ على المدى القصير. فالنظام يقول للناس إنه لا تغيير في السياسات، ولا تغيير في الأشخاص، ولا يوجد أي باب من أبواب الأمل في التغيير على المدى القريب، على الرغم مما طرأ على أحوال الناس الخاصة، بما في ذلك أحوال مؤيدي النظام، من تدهور كبير في الأشهر الأخيرة، فقد انهار الجنيه السوداني عملياً مع إعلان ميزانية العام الحالي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفقد أكثرمن ثلث قيمته خلال الشهر الذي أعقب إعلان الميزانية. ولم تكن لدى الحكومة سياسة سوى محاولة شل الاقتصاد المشلول أصلاً، حيث لم تكتف بإغلاق أبواب التعامل بالعملات الأجنبية، بل خنقت أبواب ضخ العملة السودانية نفسها بتشديد القيود على سحب النقد من حساباتهم المصرفية. وكان هذا أشبه بطبيبٍ يعالج النزيف بإيقاف قلبه عن ضخ الدم!
وبالنسبة لطائفة كبيرة من السودانيين، يعبر هذا المجاز عن حقيقةٍ مؤلمةٍ يواجهونها بصورة يومية، حين يضطرون للتعامل مع مطالب المستشفيات، بما فيها الحكومية، بدفع مبالغ طائلة، نقداً ومقدماً، عند قصدها لعلاج حالة طارئة. وكان صعبا على ذوي المرضى أن يجدوا مبالغ تعادل أضعاف مرتب كبار الموظفين في منتصف الليل، ما يؤدي إلى وفاة مرضى كثيرين أو تعرّضهم لعاهات دائمة بسبب هذا التعنت. أما الآن، حين أصبح من شبه المستحيل سحب الأموال من الصراف الآلي أو حتى الحصول على المال من المصارف في وضح النهار، فإن مصيري المريض واقتصاد البلاد أصبحا متقاربين.
وفضلاً عن عجز المواطن عن استخدام حر ماله، حين يكفي لأقل احتياجاته، فإن بعض أهم هذه الاحتياجات، مثل الحصول على الوقود، أصبح يتطلب عنت الانتظار في الصفوف ساعات قد تمتد إلى نحو يوم كامل، وذلك للمحظوظين. ولأن مثل هذه المشكلات يعم شرها أنصار النظام وخصومه، فإن هذه أزمة تذكر بانهيار نظام جعفر نميري في ربيع عام 1985، بعد أن عجز عن التعامل مع أزمة اقتصادية كانت محدودة جداً بالمقارنة مع هذه.
وبدلاً من أن يتحمل النظام مسؤوليته عن هذا الفشل الذريع، حتى ولو شكليا، فإنه بالعكس،
يواصل الإنكار، ويجتهد مسؤولوه في ترويج ترشيح الرئيس عمر البشير للرئاسة مجدّداً في انتخابات عام 2020، في مخالفة واضحة للدستور الحالي الذي لا يجيز للرئيس الترشّح مرة أخرى، فقد استوفى فترتيه وزاد عليهما ثالثة عبر تفسيرات خلافية للدستور. وقد صرف هذا الجهد والانتباه عن معالجة القضايا الملحة، مثل الاقتصاد. ولم يتحمّل غيره المسؤولية، حيث لم نسمع حتى باستقالة وزير المالية، وهو أضعف الإيمان. ولم تحدث سوى إقالة لمحافظ بنك السودان في فبراير/ شباط الماضي، ثم إقالة نائب المحافظ في أبريل/ نيسان. وغالباً ما يكون هذا لاعتراضهما على إجراءاتٍ رأيا أنها ضارة بالاقتصاد. ولكن المفترض في هذه الحالة أن تتحمل المسؤولية القيادة السياسية، وأدناها وزير المالية، ثم رئيس الوزراء الذي مرّ على تعيينه عام. والمعروف أن الأنظمة المشابهة للنظام السوداني، كما في مصر حسني مبارك أو تونس بن علي، كانت تستخدم منصب رئيس الوزراء لصرف الانتباه عن المسؤول الحقيقي، فتتم إقالته عند وقوع أزمة، ولكن النظام السوداني لم ير ضرورةً حتى لمثل هذا التظاهر، لأنه لا يلقي أدنى اهتمام للرأي العام.
وهذا بدون شك موقفٌ خطير، لأن غضب الشعب يتفجر تحديداً عند الاستخفاف به بهذه الطريقة، وعندما تسد آفاق التغيير وآمال الحلول. فقد تفجرت انتفاضة أبريل 1985 في السودان، عندما فقد الشعب الأمل في النظام والمعارضة معاً، وتفجّرت الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 عندما خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من اللعبة، وتحولت للتصييف في تونس. تفجرت الثورات العربية كذلك في ربيع العرب، بعد أن ظن الجميع أن الأنظمة العربية أصبحت مخلدة. فليحذر من أمنوا مكر الله أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ عظيم، وليتحرّكوا قبل أن تتحرّك الأمة.
وعليه، لا توجد حالياً عند القوم في السودان أزمة وقود، ولا أزمة انهيار عملة، ولا كارثة تضخم، ولا أزمة سياسية، ولا حروب تدور رحاها، ولا نظام حكم يتكوّر على نفسه، ولا يخاطب سواها. وهذا الأمر يخلق إشكالية كبرى في الحوار والتخاطب، وحتى في مساعدة النظام في الخروج من ضائقته، والبلاد من محنتها. ذلك أن الأزمة الآخذة بخناق البلاد حالياً ليست مثل سابقاتها، بسبب نفاد رصيد البلاد من الأحلام والآمال والأوهام. ففي السابق، كان من الممكن التعلق برجاء في تغييرات مهمة، مثل إنهاء الحرب في الجنوب، أو بداية إنتاج النفط، أو المصالحة الوطنية، أو رفع العقوبات الأميركية، أو الحوار الوطني، أو ولاية رئاسية جديدة، أو تدخل خارجي، أو معارضة سلمية أو مسلحة.
أما حالياً فقد نضب معين التوقعات، فليس هناك مجهود سلام قائم، لأن الحكومة لا تعترف
وبالنسبة لطائفة كبيرة من السودانيين، يعبر هذا المجاز عن حقيقةٍ مؤلمةٍ يواجهونها بصورة يومية، حين يضطرون للتعامل مع مطالب المستشفيات، بما فيها الحكومية، بدفع مبالغ طائلة، نقداً ومقدماً، عند قصدها لعلاج حالة طارئة. وكان صعبا على ذوي المرضى أن يجدوا مبالغ تعادل أضعاف مرتب كبار الموظفين في منتصف الليل، ما يؤدي إلى وفاة مرضى كثيرين أو تعرّضهم لعاهات دائمة بسبب هذا التعنت. أما الآن، حين أصبح من شبه المستحيل سحب الأموال من الصراف الآلي أو حتى الحصول على المال من المصارف في وضح النهار، فإن مصيري المريض واقتصاد البلاد أصبحا متقاربين.
وفضلاً عن عجز المواطن عن استخدام حر ماله، حين يكفي لأقل احتياجاته، فإن بعض أهم هذه الاحتياجات، مثل الحصول على الوقود، أصبح يتطلب عنت الانتظار في الصفوف ساعات قد تمتد إلى نحو يوم كامل، وذلك للمحظوظين. ولأن مثل هذه المشكلات يعم شرها أنصار النظام وخصومه، فإن هذه أزمة تذكر بانهيار نظام جعفر نميري في ربيع عام 1985، بعد أن عجز عن التعامل مع أزمة اقتصادية كانت محدودة جداً بالمقارنة مع هذه.
وبدلاً من أن يتحمل النظام مسؤوليته عن هذا الفشل الذريع، حتى ولو شكليا، فإنه بالعكس،
وهذا بدون شك موقفٌ خطير، لأن غضب الشعب يتفجر تحديداً عند الاستخفاف به بهذه الطريقة، وعندما تسد آفاق التغيير وآمال الحلول. فقد تفجرت انتفاضة أبريل 1985 في السودان، عندما فقد الشعب الأمل في النظام والمعارضة معاً، وتفجّرت الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 عندما خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من اللعبة، وتحولت للتصييف في تونس. تفجرت الثورات العربية كذلك في ربيع العرب، بعد أن ظن الجميع أن الأنظمة العربية أصبحت مخلدة. فليحذر من أمنوا مكر الله أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ عظيم، وليتحرّكوا قبل أن تتحرّك الأمة.
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
عبد الوهاب الأفندي
مقالات أخرى
04 نوفمبر 2023
14 أكتوبر 2023
09 سبتمبر 2023