أزمة... أزمات

11 اغسطس 2015
+ الخط -
أزمة كهرباء، أزمة نفايات، أزمة أطعمة فاسدة، أزمة حرّ، أزمة سياسية، أزمة اقتصادية... كل هذا والبلد يدبك ويتمايل على وقع مهرجاناته الصيفية المتكاثرة من الشمال إلى الجنوب، وكأن شيئا لم يكن، وكأنه بلد جد طبيعي، يستأهل أن يصيّف ويستمتع بعد أشهر من الكد السويّ والتعب المنتج. لا بأس. هذه سنّة الحياة هنا، من الأقصى إلى الأقصى، ومن السيئ إلى الأسوأ، ومن انحدار سريع إلى انزلاق أسرع نحو الهاوية، ومن تنفس اصطناعي إلى اختناق تام.

يخطر لي، كلما التقيت صديقا، أو غير صديق، أن أسأله: هل يمكنك أن تذكر لي أمراً واحداً ما زلت تراه إيجابيا - وبالعامية "ظابط" - في لبنان؟ وطبعاً، يجيبني الجميع أن لا، هم لا يجدون فيه أي ناحية إيجابية متبقية يمكن ذكرها، بل إن ما يكرج على ألسنتهم قوائم، تطول ولا تنتهي، عن كل السلبيات التي يعانون منها، يومياً، أياً كانت طوائفهم وطبقاتهم الاجتماعية، ثقافتهم وآراؤهم السياسية، بحيث لا يعود الواحد منهم يدري من أين سيبدأ.

تقول لي (ن) إنها فقدت تقريباً كل حواسها الاجتماعية، فما عادت تطيق رؤية الناس أو سماعهم، بل إنها صارت تشعر أنها قد استذأبت تماما، فنبتت لها مخالب وأنياب، وأن ثمة ما يعوي في داخلها وحشة وقرفاً وكراهية، كلما ازدادت انسحاباً وانفصالا، وأن من حسن حظها أن عملها لا يضطرها إلى مغادرة منزلها يومياً، وإلا لكان بإمكانها أن تنهش من حولها كيفما اتفق، نساء ورجالاً، كباراً وصغاراً، هي التي لا تجد ذرة براءة في أيٍّ كان من أولئك الذين بقوا أسرى لعنة هذي البلاد. وتضيف (ن) أنها تظن أن أمثالها كثر، غير أنهم لا يتكشّفون ذئاباً إلا سراً، وفي أقبية أرواحهم، مخافة أن يرعبوا القلة القليلة التي بقيت في دوائر حيواتهم الضيقة جدا. 

ويقول سائق التاكسي (ر)، وهو يتصبب عرقاً وقهراً وشتائم، إنه، وبعد أن غادر أستراليا عائداً، في العام 2005، بعد خروج الجيش السوري من أراضي لبنان، وانبعاث أمله بإمكانية بناء حياة في أرض طفولته ومراهقته، جمع ما كان قد وضعه جانباً من سني خدمته هناك، وعاد ليؤسس، هو وابن عمه وصديق طفولته، مرأبا خاصا لتصليح السيارات، إلا أن المال الذي كان يجب أن يُخصّص لشراء المعدات، صار كله في جيب ابن العم الذي اقتنص فرصته لمغادرة البلاد، غير ملتفت إلى الوراء.  

وتقول (ع) إنها، لتغادر البلاد وتحصل على جنسية أخرى، تزوجت عبر الإنترنت من أجنبيّ اتضح، في ما بعد، أنه مختل نفسيّ، وأنه سهّل سفرها لغايات أخرى، لا علاقة لها بالزواج، وأنها ذاقت منه الأمرّين، لتتمكن من الحصول من ثم على الطلاق، لتعود من بعدها إلى البلاد، فتعمل بائعة في محل للثياب.

ويقول (م) إنه، وبسبب مرض طفلته الصغيرة، اضطر إلى المتاجرة بالمخدرات على نطاق متواضع -سجائر ماريجوانا للشباب أمام المدارس، وحبوب إل إس دي في السهرات - فكان نصيبه عقوبة بالسجن خمس سنوات، قضاها على الهاتف، برفقة أكبر التجار الذين لا تجرؤ يد العدالة على لمسهم، والذين كانوا يؤمّنون لسجون لبنان كل أنواع الحبوب المخدّرة والممنوعات، وإنه، حين أنهى فترة عقوبته، خرج متخصصا ومتمكنا أكثر مما كان.

أما ناي الصغيرة التي لها من العمر 4 سنوات و4 أشهر، فتقول إنها لم تعد تريد أن تبقى في لبنان، لأن "أبو فاعور (اللحّام) لا يبيع ماما لحماً لذيذا، ولأن الناس غير مهذبين يرمون الأوساخ في الطرقات، ولأن صاحب الكهرباء بخيل يحتفظ لنفسه بكل الكهرباء". وإذ تفطن إلى أنها ستخلف وراءها أهلاً وأصدقاء، تقطب جبينها، ودامعة تقول، وهي على حافة البكاء: أتدرين ماما، لبنان كله صار "كاكا".

 

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"