أرزاق رمضانية
منى وهدى زوجتان لرجل واحد، تزوّجهما بفارق عشر سنوات. الأولى قريبته وحبيبة الصبا، فلها مكانة خاصة. والثانية تزوّجها، لكي تنجب له ولداً بعد أن أنجبت له الأولى خمس بنات، لكن إرادة الله شاءت أن تأتي الثانية بخمس بنات أخريات! وأصبحت معيشته مع "دستة" من الإناث، هي أقرب للكفاف. وكان ينتقل من عمل حقير إلى آخر أكثر حقارة، خصوصاً بعد أن أحكم الحصار على غزة، وتقطعت سبل العيش. وعلى الرغم من ذلك، استمر يعمل هنا وهناك، حتى أنه لم يعد قادراً على العثور على أي عمل، فأصبح يقبع في الدار، لا عمل له سوى مراقبة حريمه الاثنتي عشرة، وتصديق وشايات زوجته الأولى ومناصرتها.
يظل الحال على ما هو عليه، حيث تأتي كل واحدة ببعض الطعام من بيت أبيها، أو إخوتها، وتدوران على المؤسسات الخيرية وبيوت الأغنياء، ويسترن حالهن بالكاد، حتى يأتي رمضان، فيبدأ الزوج صنعة مؤقتةً، تدر عليه دخلاً قليلاً في الشهر، فصناعة المخللات في البيت لا تكلفه كثيراً، حيث يشتري الخضار المختلفة، ويعهد بها لزوجتيه وبناته، ويبدأن في تخليلها قبل الشهر الكريم بأيام، ثم يغلفنها في أكياس بلاستيكية متباينة الأحجام، بعد إضافة قليلٍ من ماء التخليل لكل كيس، لكي لا يتلف سريعاً، حسبما يوصى الزبون، ويرصّ براميل المخللات في باحة البيت الضيقة.
لا تخضع صناعة المخللات في البيوت لرقابة صحية، حيث تضاف إليها كمية غير قياسية من ملح الطعام والخل والمواد الحافظة، وأحياناً ماء النار، لتسريع نضجها. والأمر نفسه ينطبق على صناعة العصائر المصنعة بأطعام مختلفة، والتي تضاف إليها مُكسِبات اللون والرائحة، وتباع بأسعار رخيصة نوعاً ما. تعتبر الصناعتان من المهن الموسمية التي تنشط في شهر رمضان، على الرغم من وجودها طوال العام، وتكون باباً لرزق عائلاتٍ كثيرة، يعاني أربابها من البطالة، لكنها لا تؤمن لهم سوى رزق بسيط، ينتهي مع انتهاء الشهر. ولذلك، الفوضى والعشوائية في تصنيعهما أدت إلى تزايد الإصابة بالسرطان في غزة، بنسبة ملحوظة، خصوصاً بين النساء، حيث يتم تشخيص خمس حالات إصابة بأنواع مختلفة منه أسبوعياً. وقد لوحظ، وحسب الإحصائيات، زيادة نسبة السرطان عموماً في غزة، منذ العام 2012، وبنسبة 20% عن الأعوام السابقة. والملاحظ أن حالات السرطان تظهر بين الأطفال وصغار السن من الجنسين، في ظاهرة ملحوظة، لعدة أسباب، أهمها، حسبما تفيد الأبحاث العلمية، فوضى استخدام المواد الحافظة، ومكسبات اللون والطعم الرخيصة عموماً، والتي تعتبر ظاهرة في غزة، يقبل عليها الفقراء عوضاً عن شراء الفاكهة، وتقدم هذه العصائر للضيوف، وفي المناسبات، عوضاً عن المياه الغازية المرتفعة السعر، وتقدم المخللات مع كل وجبة، رغبةً بتغيير نمط الوجبات التي، غالباً، ما تكون فقيرة بعناصرها الغذائية، فتضاف المخللات كزينة لكل "سفرة غزّية"، خصوصاً في رمضان.
أتحيز أنا بالطبع للزوجة الثانية، والتي تشققت أصابعها، وأصيبت بالتهابات وفطريات، بسبب استخدامها المفرط الخل والملح، وعدم تفكيرها بترف استخدام القفازات، وأصيبت صغيراتها بحروقٍ بشعة بأيديهن، حين حاولن مساعدتها بلا طائل، الزوجة الأولى تنتج كمية أكبر من عبوات المخلل المغلفة، بمساعدة بناتها الشابات، وتحصل على مبلغ من المال من الزوج، مقابل هذا العمل الموسمي، تدّخره لتشتري بعض ملابس العيد لبناتها. فيما تواصل هدى العمل ليل نهار، وحيدة، لكنها لا تحصل على المبلغ نفسه من الزوج. وقد أضحكتني كثيراً، وهي تروي لي كيف يدّعي زوجها أنه ينقد كل واحدة المبلغ نفسه، وكيف فكرت أن تخفي ابنتها الصغيرة في برميل "المخلل" الضخم، لكي تسترق السمع، حين يحاسب زوجته الأولى، وتعرف قيمة المبلغ الذي ينقدها إياه، فقد ذكّرتني بمشهد في فيلم" كلّم ماما"، حين أخفت منة شلبي حبيبها في برميل "الطرشي" (المخلل)، لكن الأمّ، عبلة كامل، كشفته.
حذّرت هدى من أن تفعل ذلك، لأن الصغيرة سينسلخ جلدها، لو قبعت في برميل المخلل دقائق، ونصحتها بزيارة عيادة وكالة الغوث، لعلها تصرف دواءً لأصابعها التي تآكلت أطرافها.