انتظار يشبه ما يحصل في الأحداث الكبرى. ذلك هو الذي سبق حديث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، منذ أن أعلن، مساء الأحد الماضي، أنه "سيعري الحقائق بكافة تفاصيلها" في اجتماع اللجنة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم الثلاثاء.
وعاشت تركيا طيلة الوقت الذي سبق الخطاب أمس الثلاثاء، وهي تتداول سيناريوهات مختلفة وتطرح أسئلة متعددة، تلتقي وتفترق جميعها عند نقطة القول الفصل في الجريمة. وظل السؤال المعلق: هل يقول الرئيس الحقيقة ويخوض في التفاصيل الجنائية، أم أنه سيكتفي بتحديد التبعات السياسية للقضية؟ وعاش الشارع التركي حالة من الانقسام والشك، بين من يعتقد أن أردوغان قرر الحديث قبل ظهور نتائج التحقيق من أجل عرض صفقة سياسية على السعودية، وفي الطرف الآخر هناك من رأى أن أردوغان سوف ينقل القضية إلى مستوى يضيق الخناق على السعودية، من خلال تقديم الرواية التركية الرسمية للجريمة، من دون أن يدخل في التفاصيل الجنائية، وسيترك للقضاء أن يتابع المسألة حتى النهاية.
وفضّل أردوغان عدم الكشف عن تفاصيل جديدة لا يعرفها الرأي العام، الذي أصبح على دراية بمعظم تفاصيل الجريمة بفضل التسريبات الأمنية والإعلامية المتواصلة منذ أول أيام القضية، وترك ذلك للسلطات القضائية لاحقاً، وذلك لترك الكرة في الملعب السعودي، في ظل حصره الأزمة مع جزء من القيادة السعودية، ممثلة بولي العهد، محمد بن سلمان، الذي لم يذكره بتاتاً في خطابه، في مقابل إشادته أكثر من مرة بالملك سلمان. صحيح أنه لم يسمّ ولي العهد كمتهم مباشر بالنسبة لأنقرة، مثلما رغب كثيرون أن يفعل، لكن الصحيح أيضاً هو أن مجموعة كبيرة من النقاط المهمة يمكن التوقف عندها انطلاقاً مما قاله أردوغان، أو حتى مما لم يقله.
ومما جاء في كلام الرئيس التركي ما يوحي باحتمال الذهاب إلى تحقيق دولي في قضية الصحافي والكاتب السعودي الراحل جمال خاشقجي، مهد له وزير الخارجية التركية، مولود جاووش أوغلو، قبل دقائق من خطاب رئيسه أمام البرلمان، وهو ما من شأنه أن يفتح احتمالات وصول القضية إلى محكمة دولية تلي التحقيق الدولي، على غرار ما حصل في قضية رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري.
وقد شاء أردوغان في خطابه رمي فكرة التحقيق الدولي تلميحاً ربما لجس نبض المجتمع الدولي حيالها، فلم يستخدم مصطلح "تحقيق دولي"، لكنه أوحى به بشكل واضح، عندما قال إن "خاشقجي كان مواطناً سعودياً لكنه أيضاً صحافي عالمي، ولا أشك بمصداقية الملك سلمان، ولكن لا بد من لجنة تحقيق محايدة وموضوعية ومستقلة لا يشتبه في أي صلة لها بالجريمة، وأن يتم البحث عن الشركاء في سائر الدول الأجنبية المشاركين في الجريمة، على اعتبار أن مقتل خاشقجي جريمة سياسية. وهذا يفرض علينا مسؤولية دولية، وتركيا باسم المجتمع الدولي ستتابع القضية كممثل للضمير الإنساني"، وهو ما فُسر على نطاق واسع على أنه تلميح إلى دعوة لتحقيق دولي كان جاووش أوغلو قد رحب به بشكل واضح. وكان لافتاً أن أردوغان أشاد بالملك سلمان شخصياً، وهذا يعني ضمناً عدم الإشادة بابنه محمد على الأقل، مع إرفاق كلامه بضرورة الكشف عن المتورطين من أسفل الهرم إلى أعلاه.
وتوقف كثيرون عند النقاط التي طرحها أردوغان على شاكلة أسئلة موجهة للقيادة السعودية، وذلك في إطار تكذيبه الرواية الرسمية الأولى، لا المسربة عبر مصادر "رويترز" ووسائل إعلام أخرى. فطرح أردوغان 4 تساؤلات على الرياض عن سبب تجمع فريق الإعدام المؤلف من 15 سعودياً أمنياً وطبيباً في القنصلية يوم مقتل خاشقجي، وعن هوية من أمر بارتكاب الجريمة، وعن هوية المتعهد التركي الذي تدعي الرياض أنه تم تسليمه الجثة للتخلص منها، وعن سبب التضارب في الروايات السعودية المتعاقبة حول الجريمة. وارتأى أردوغان عدم الإفصاح عن "الأدلة القوية" التي قال إن سلطات بلده تمتلكها عن أن جريمة القتل التي "تم التخطيط لها مسبقاً ولم تكن بالصدفة"، وهو ما كان ربما الهدف الرئيسي من خطاب أردوغان، أي تكذيب الرواية السعودية عن مقتل خاشقجي، بدءاً من رواية "الشجار" في القنصلية وصولاً إلى "خنق" الإعلامي السعودي لتفادي صوت صراخه خلال التحقيق معه. ومن دون أن يطرح أردوغان أي اسم لأي متهم، جزم بأن "إلقاء تهمة قتل خاشقجي على عناصر أمنية لا يقنع تركيا ولا الرأي العام العالمي". ولم يكن أردوغان جازماً في المطالبة باسترداد المواطنين السعوديين الـ18 المتهمين بالجريمة، فطرح الموضوع على شكل مناشدة للملك سلمان بتسليمه المتهمين، مع إصراره على القول إن هذا مجرد اقتراح، وأن القرار يعود إلى الرياض. واستدرك أردوغان قائلاً "لا نريد أن يفكر أحد بمجرد التستر على هذه الجريمة، وهناك احتمال كبير أن يتم طرح معاهدة فيينا على الطاولة (الناظمة لعمل البعثات الدبلوماسية)".
والملاحظ هنا أن هناك حالة غضب على مستوى الرأي العام التركي، والذي ينتظر موقفاً من رئيس الدولة على مستوى الجريمة وانتهاك السيادة. وفي الشارع التركي لا أحد يصدق الرواية السعودية، وهناك إجماع على أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، هو المدبر الفعلي للجريمة، ولهذا يجب أن يعلن أردوغان كل شيء وألا يخفي أي شيء، لكن الرئيس لم يذهب في الاتجاه ولم يأت على ذكر بن سلمان، واكتفى بـ"مطالبة السعودية الكشف عن المتورطين من أسفل السلم إلى أعلاه". وجرى الانتظار وسط تسريب مريع تداولته أوساط الإعلام في إسطنبول، يقول إن تصفية خاشقجي حصلت بقطع رأسه، وقد تم حمل الرأس إلى محمد بن سلمان من قبل أعضاء الفريق الذي قام بتنفيذ الجريمة في القنصلية، وذلك بناء على طلب مدير ديوان ولي العهد، سعود القحطاني، الذي تؤكد كافة الروايات التركية أنه هو من أشرف على الجريمة من الألف إلى الياء. وجاء في تسريب بثته وكالة "رويترز" مساء الإثنين الماضي أن فريق الإعدام أجرى مكالمة "سكايب" مع القحطاني الذي وجه إهانات إلى خاشقجي، ورد عليه خاشقجي، فأعطى القحطاني الأمر بتصفيته. وقال: أعطوني رأسه.
وقبل كلمة أردوغان توافد جيش من الصحافيين إلى مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، مع أن كلمة الرئيس كانت في مبنى البرلمان في أنقرة. ويبدو أن الصحافيين، وتحديداً كاميرات التلفزيون، ذهبت إلى القنصلية تنتظر أمراً ما، لكنها عادت أدراجها خائبة مثلما حصل ليلة الأربعاء الماضي، حين وصلت معلومات عن دخول فرق التفتيش إلى منزل القنصل محمد العتيبي عند الساعة الرابعة بعد الظهر، وكانت التسريبات تجزم أن الجثة مخفية هناك، لكن فريق المفتشين غادر عند الفجر من دون تقديم أي معلومة حول فك لغز الجثة. والأمر ذاته حصل يوم أمس، إذ عادت أفواج الصحافيين إلى فنادقها من دون أي معلومة جديدة يمكن العمل عليها لتقديم مادة صحافية، وبذلك عادت التسريبات كي تنشط من جديد، وبدأت الهواتف والمكالمات التي تطارد المسؤولين في البحث عن معلومة جديدة بعد أن صار المزيد متخماً بالتسريبات. وسبق الخطاب بقليل تسريب كشفت من خلاله صحيفة "نيويورك تايمز" عن طبيعة العرض الذي قدمه مستشار الملك السعودي، الأمير خالد الفيصل، على الأتراك خلال زيارته إلى تركيا، من أجل طي قضية مقتل خاشقجي. ونقلت الصحيفة عن مصدر مقرب من الرئيس التركي أن الفيصل عرض إنهاء حصار قطر، فضلاً عن إغراءات مالية واستثمارات داخل تركيا مقابل طي ملف خاشقجي. وأضافت "إغراءات الفيصل تضمنت مساعدات لتحسين وضع الاقتصاد التركي (بسبب أزمة الليرة)". ونقلت الصحيفة عن المصدر قوله إن أردوغان "رفض العرض بطريقة غاضبة، وقال إنها رشوة سياسية".
وقال مصدر سياسي تركي إن إرسال خالد الفيصل لمتابعة هذه القضية يعود إلى الصلات الخاصة التي تربطه بتركيا. وأضاف أنه لا يزال يتواجد في تركيا، ويلتقي المسؤولين الذين يشرفون على الملف. وقال المصدر إن كلمة أردوغان تؤكد أن الاتصالات بين أنقرة والرياض متواصلة، حتى وإن لم تعط نتيجة ملموسة على صعيد تحقيق اختراق كبير في القضية. وأكد المصدر أنه بات واضحاً أن أنقرة تبقي على القنوات مفتوحة مع الرياض، وبعد كلمة أردوغان باتت تنتظر منها عدة أمور، الأول هو تسليم الـ18 موقوفاً من أجل محاكمتهم في إسطنبول، كون الجريمة حصلت هناك كما طالب أردوغان. ومن المنتظر أن يقوم المدعي العام التركي خلال فترة قصيرة بتقديم طلب رسمي للسلطات السعودية من أجل تسلم المطلوبين. والأمر الثاني هو تحديد المسؤول عن إعطاء الأمر لتنفيذ الجريمة من دون تبرئة أحد من "أعلى السلم إلى أدناه". والأمر الثالث هو أن تركيا ترفض منطق الصفقة وتسوية القضية من خلال إلباس الجريمة لبعض المسؤولين من أجل رفع المسؤولية عن ولي العهد، وهذا ما تطرق إليه أردوغان بصراحة قبل الخطاب، في تصريح لقناة "تي أر تي" وخلال الخطاب، بقوله إن "إلقاء التهمة (قتل خاشقجي) على عناصر أمنية لا يقنعنا نحن ولا الرأي العام العالمي". يترك خطاب أردوغان القضية عند المستوى الذي وصلت إليه حتى الآن، ويبقى الرأي العام المحلي والعالمي بانتظار مطالعة المدعي العام التركي، الذي سيقدم رواية المسار الجنائي للجريمة، وهذا أمر، يبدو أنه سيطول تبعاً للبحث عن الجثة.