تكتنف الكتابة عن الملحن المصري أحمد صبري النجريدي عقبات عديدة، فالرجل صاحب أفقر صحيفة بيانات بين أهل الفن عموما، وبين ملحني أم كلثوم على وجه الخصوص، بل إن المعلومات عمّن اشتهروا قبل عقود من ميلاده أوفر وأغزر وأدق. صحيفة البيانات المحدودة تعطينا اسما ثلاثياً، وعنواناً هو مدينة طنطا، ومهنة هي طب الأسنان، وهواية هي التلحين. لا تاريخ ميلاد، ولا تاريخ وفاة.. ولا حتى صورة فوتوغرافية واحدة نستحضرها في أذهاننا حين نستعيد ألحانه التي شدت بها كبار المطربات.
وبالرغم من أن النجريدي قدم ألحاناً لمطربات غير أم كلثوم، إلا أن الأعمال القليلة التي قدمها لكوكب الغناء الصاعد حينها، كانت ولا تزال هي السبب الرئيس لبقاء ذكره إلى اليوم، بين قلة من المهتمين بالمسيرة الغنائية الكاملة لأم كلثوم. فالجمهور الغفير من عشاق كوكب الشرق بامتداد البلاد العربية، أكثره لا يكاد يعرف النجريدي، وبالطبع لا يصح وضعه في مقارنة مع شهرة القصبجي، أو زكريا أحمد، أو السنباطي.
قصة النجريدي تنكأ جرح التأريخ الفني في مصر، إذ ليس من السهل فهم كل هذا الغموض الذي يحيط برجل كان من أوائل من قدموا الألحان لأشهر مطربة في تاريخ العرب
لكن هذا الارتباط بصوت أم كلثوم، شكل ظهيرا يبدو منطقيا لهواة تحميل مطربة العرب مسؤولية كل معاناة يعانيها من حولها، وكل مأساة يعيشها المتعاملون معها، بما في ذلك الانطفاء الفني، والتوقف عن الإبداع غناء، أو تأليفاً، أو تلحيناً، وتصوير صاحبة الصوت الأعظم باعتبارها كياناً شريراً يرتفع على أطلال ضحاياه.
وبالطبع فإن هذا الموقف يستلزم التغافل عمداً، أو الغفلة جهلاً، عما قدمه النجريدي لغير أم كلثوم، حيث يتقدم اسم فتحية أحمد، تلك المطربة ذات المكانة الكبيرة في مسيرة الغناء المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ووفقا للمؤرخ الموسيقي السوري مروان منصور، فقد عرفنا من ألحان النجريدي لفتحية ثماني قصائد، هي: "فراق الروح"، و"أساة الهوى"، و"بلغوها إذا أتيتم حماها"، و"غلب الشوق مغرما فبكاك"، و"خطرت ورود الروض بين يديها"، و"عودوا لها وسلوها"، و"يا عاذلي بالله كف"، و"يا نظرة أرسلت نار الغرام".. وكلها كان - على الأغلب - بين عامي 1924 و1928. كما غنت "توحة" من ألحان النجريدي مونولوجاً واحداً، هو "أشكي منك واشتكيلك"، عام 1928. وأيضاً قدم النجريدي للمطربة نادرة عملين، هما: طقطوقة "القلب كان ماله ومالك" عام 1924، وقصيدة "سابق الريح نحوها يا غرامي".
علاقة لم تطل
خلال أربع سنوات، وتحديداً بين عامي 1924 و1927 أسفر التعاون الفني بين أم كلثوم الملحن الهاوي أحمد صبري النجريدي عن 13 عملا، تنقسم من حيث الشكل إلى ثلاث قصائد، هي: "كم بعثنا مع النسيم سلاماً"، و"لي لذة في ذلتي وخضوعي"، و"مالي فتنت بلحظك الفتاك"، وثماني طقاطيق، هي: "الخلاعة والدلاعة"، و"الفل والياسمين والورد"، و"أنا على كيفك"، و"شفت بعيني"، و"يا ستي ليه المكايدة"، و"يا كروان والنبي سلم"، و"الحب كان من سنين"، و"والله ما حدش جني".. وعملين يحملان إشكالات تصنيفية، هما: "خايف يكون حبك ليا شفقة عليا"، وهو نص كتبه رامي بطريقة المونولوج، لكن تلحين النجريدي جعله أشبه بالطقطوقة بالرغم من عدم تكرار أي مقطع فيه.. و"طلع الفجر ولاح"، وهو نص فصيح، لكن تلحين بعض أجزائه تضمن ما يشبه الهنك في الأدوار.
هذه الأعمال التي لحنها النجريدي لأم كلثوم في بواكير مسيرتها الفنية، كانت - وما زالت - أشبه بجداريات أثرية، يمكن من خلال فك طلاسمها أن نتعرف إلى من بناها، ولو في جانب محدود من سيرته وتاريخه. ويمكن أن نقسم تلك الجداريات إلى قسمين: قصائد وطقاطيق، باعتبار أن المونولوج لم يكن قد تبلور متضح المعالم بعد.
قصائدياً، ومن دون جهد كبير، يستبين المستمع مدى تأثر النجريدي بالشيخ أبو العلا محمد. ليس فقط بالتزام إيقاع الواحدة الكبيرة، والتعامل مع النص أبياتاً منفردة، أو شطرات، بل إن روح التلحين والمعالجة النغمية تتلبس تماماً شخصية الشيخ أبو العلا، كما يتضح ذلك جلياً في قصيدة "ما لي فتنت بلحظك الفتاك"، من كلمات الشاعر علي الجارم، وبقدر أقل في قصيدتي "لي لذة في ذلتي" لأبو الحسن الدجاجني، و"كم بعثنا مع النسيم سلاما"، لإبراهيم حسني ميرزا، التي وضع لها الشيخ أبو العلا لحنا مختلفاً لم تغنه أم كلثوم، وشدت به فتحية أحمد، في تسجلين، أسطواني وإذاعي.
فإذا انتقلنا إلى نص "طلع الفجر"، اختلف الأمر، ولا نجد أثرا لمعالم قصيدة أبو العلا. وعلى غير ما هو معتاد من أم كلثوم، بدأت غناءها بليال، استمرت دقيقتين ونصفاً في تسجيل مدته سبع دقائق، وهي مدة كبيرة عند مراعاة النسبة والتناسب. ومع جملة "يا زمان الوصل"، يبدأ المرددون في تناوب الهنك على طريقة الأدوار.. وكل هذا أصاب التصنيف الشكلي لهذا العمل بالارتباك، فالنص قصيدة فصيحة تقليدية، واللحن يبدأ بـ يا ليلي يا عيني، ويضم جمل هنك وترديد.
هذه الاختلافات عن النمط التلحيني الموروث للقصيدة، كانت كافية لتبرير الارتباك التصنيفي، لكن فيكتور سحاب زعم اختلافاً آخر يتمثل في طريقة تلفظ أم كلثوم بمستهل الأغنية "طلع الفجر"، بكسر الطاء واللام، كما في العامية المصرية، وهو أمر ينفيه التسجيل الكلثومي الوحيد لهذا العمل، حيث تنطق الطاء واللام واضحتين جليتين بالفتح من دون أدنى شك.
كان للطقطوقة الحظ الأوفر من مساحة التعاون الفني بين النجريدي وأم كلثوم، وهو تعاون لم يتوقف عند التلحين فقط، فمن بين الطقاطيق الثمانية التي لحنها للآنسة، كتب الرجل خمسة نصوص، هي: "الخلاعة والدلاعة مذهبي"، و"الفل والياسمين والورد"، و"أنا على كيفك"، و"يا كروان والنبي سلم"، و"والله ما حدش جني". وقد اتسمت هذه النصوص بخفة واضحة، ولم تخل أحيانا من ركاكة وضعف، مع الأخذ في الاعتبار أن الركاكة كانت سمة النصوص العامية في هذا التوقيت، ولم تكن رومانسية رامي ولوحاته الوجدانية قد ترسخت.
وقد لاقت طقاطيق النجريدي نجاحا جماهيريا كبيرا، فقد كان صوت أم كلثوم في عنفوانه وحدته، ووجد الناس في هذه الألحان شيئا جديدا رغم بساطتها، وخلوها التام من أي شكل من أشكال التعقيد النغمي، حيث لحن المذهب هو بعينه لحن الأغصان.
ويبدو أن فيكتور سحاب قد تعجل، حين زاد قائمة الطقاطيق النجريدية لأم كلثوم واحدة هي "يا جميل ارحم"، رغم إقراره بأن أكثر المصادر لم تذكرها، فالتسجيل الذي يحمل هذه الطقطوقة مع تقديم يقول: الآنسة أم كلثوم، ليس إلا تزويرا فجا، والصوت فيه ظاهر البعد عن صوت أم كلثوم، والغالب أنه لمطربة ممن كانت شركات الأسطوانات تستعين بهن لتقليد المطربة الصاعدة بغرض الربح التجاري. واستند سحاب إلى اللوائح الشهيرة لمصطفى المدرس، وقد أثبتت الأيام وجهود التوثيق أنها مليئة بالأخطاء.
غياب غامض
لا يكاد أحد يعرف على وجه الدقة تاريخ توقف أحمد صبري النجريدي عن التلحين، ولا تجد أسئلة اختفائه الفني إجابات شافية أو نصف شافية: أكان آخر ألحانه لأم كلثوم؟ أم أنه اختلف مع كوكب الشرق وواصل هوايته التلحينية مع غيرها؟ وإن كان لغير أم كلثوم فإلى أي مطربة ذهب؛ فتحية أحمد أم نادرة؟
في موسوعته أعلام الموسيقى العربية عبر 150 سنة، ذكر عبد الحميد توفيق ذكي أن أحمد صبري النجريدي اشترك في ألحان فيلم "وراء الستار"، بطولة عبد الغني السيد ورجاء عبده، عام 1939، واعتبر ذكي أن هذا الاشتراك كان آخر الجهود الفنية للنجريدي. لكن الفيلم يعد - إلى الآن - من مفقودات السينما، ويصعب التأكد مما قاله عبد الحميد توفيق، ولا سيما أن بيانات الفيلم المتاحة في موقع سينما دوت كوم تذكر تاريخا مختلفا للإنتاج هو عام 1937، وتذكر اسمي ملحنين، أولهما: أحمد شريف، الموسيقي ابن محافظة الشرقية، والثاني: أحمد صبرة، وهو ملحن ولد ونشأ في الإسكندرية، ثم جاء إلى القاهرة وعمل بكازينو بديعة مصابني. وربما كان التشابه بين اسم "أحمد صبرة" واسم "أحمد صبري" (النجريدي) سببا للخطأ والخلط.
لا ريب أن قصة النجريدي تنكأ جرح التأريخ الفني في مصر، إذ ليس من السهل فهم كل هذا الغموض الذي يحيط برجل كان من أوائل من قدموا الألحان لأشهر مطربة في تاريخ العرب، وعرفته الأوساط الفنية وشركات الأسطوانات.. لكنه اعتزل، ثم غاب عن الناس غيبة كبرى، وترك خلفه المؤرخين وأقلامهم لا يقدر أحد منهم على تقديم سبب جازم للاعتزال، ولا تاريخ دقيق لهذا الانطفاء الفني، ولا حتى تاريخ وفاة دقيق، لنتذكره مرة كل عام، ونحن نستمع إلى كلماته ولحنه: الفل والياسمين والورد.