أحمد جاريد: ألوان خافتة في قصر التيه

05 نوفمبر 2015
مواد مختلطة على قماش، 100 × 100 سم، 2013
+ الخط -

عند الولوج إلى مناطق وعرة شديدة الخصوصية ذات نصوص تشكيلية عميقة، تعتمد على الحذف والإضافة والمحو، قبل الرسم، لإزالة فكرة وإثبات صحّة فكرة مضادّة، لا بد أن نتوقف عند تجربة بارزة في التشكيل المغربي المعاصر، هي تجربة أحمد جاريد (1954)؛ لأننا ربّما لا نستطيع الدخول بسهولة إلى هذه المناطق ذات الدروب الطويلة، والتي تقع في داخل حدودها من جديد. إنها كقصر التيه في الأسطورة اليونانية: العودة إليها غير مضمونة، إن حدث وخرجنا منها في المرّة الأولى.

يشبه عالم جاريد متاهة كبيرة من الكتب، يتسلّل إلى من يدخلها شعور بالرغبة في الاقتناء وفكّ الألغاز واقتناص الفرصة في البقاء لأطول وقت ممكن. تصيب المتلقّي حالة غريبة وانسجام تام مع الخامات المستعملة في أعماله الفنية؛ حيث تصبح مفرداته المرسومة، والتي تظهر غالباً على استحياء، بمثابة نصوص تبوح عن مكنوناتها في جوّ حميمي لا يخلو من معرفة بصرية وفكرية، وتبقى المحسّنات التشكيلية الناتجة عن تناغم مواد وتنافر أخرى كالهوامش التي يستعين بها المتلقّي في التواصل مع النص للوصول إلى فهم تشكيلي مقنع يرضي فضوله.

في لوحاته، عطر الورد ورائحة الجدران وعبق الأمكنة الجميلة لدرب السلطان والأحباس وباب مرّاكش وأصوات تأتي من عالم طفولة واللعب ودعوة مفتوحة للتصالح الداخلي مع النفس قبل الآخر. شفافية لونية تتخلّلها ملامس خشنة كالإيقاعات المتصاعدة في موسيقى روحية متناغمة، مسحة صوفية وتشفير النص البصري لحمايته من التطفّل وعبث العيون العابرة وتقديمه إلى أصحاب الذائقة البصرية المتمرّسة، في محاولة لتقريب المسافات بين أحاسيس البشر التي اجتمعت في أعماله الفنية في نص تشكيلي مخصّص يسمو بالتجارب الإنسانية الرفيعة.

تلامس لوحات جاريد عوالم الحلاج وابن عربي والنفري وعمر الخيام وتابيس وروتكو، وتحافظ على خصوصيتها وتفرّدها في استعمال المواد الباهتة والألوان الخافتة، مواد نباتية ومعدنية وتراب وكربون ومسحوق الرخام وغيرها على الخشب والقماش، بياض سديمي مرهف يتخلّله البصر إلى الماورائي للولوج في داخل العمل الفني والذي في حقيقته دخول إلى النفس البشرية.

الأشكال عنده هي تراكم الألوان فوق بعضها وظهورها في أوقات واختفاء أجزاء منها في أوقات أخرى، حسب الضرورة الفنية، ونادراً ما تتشكّل بخطوط عفوية أو كتابة أو أحرف. كلمات غير مكتملة: بقع وأثر الأيدي العابرة، المحو على أسطح لوحاته بمثابة محو الأخطاء البشرية والتركيز على المشاعر النبيلة فيها وإثبات جمالها وجدارتها بالوجود.

السطح التصويري لديه لا يحيلنا إلى قصص ودلالات جلية، بل يغمرنا بشعور غامض في ردهة الأمكنة المنسية الرطبة وظلالها البنفسجية على حيطان الجير البيضاء العالية في أيام الهجير القاسية، بتدرّجات الأزرق في المحيط والسماء، في يوم ما من حياة شخص ما.


* تشكيلي من ليبيا


اقرأ أيضاً: الكهفعي: جماليات الحَفر المهمَلة

المساهمون