أحمد الفقيه.. الرحيل في خضم المعارك

04 مايو 2019
+ الخط -
كان كاتب هذه الكلمات يستعد لكتابة مقالٍ عن ليبيا، يستكمل جوانب لم يتطرّق إليها المقال السابق "ضوء أخضر للكارثة في ليبيا"، فإذا بالنبأ الأليم لرحيل الروائي والكاتب أحمد إبراهيم الفقيه، فجر الأربعاء مطلع مايو/ أيار الجاري، يثير الصدمة والشجن الكثيف. ولمّا توزّعت النفس بين الكتابة السياسية في الشأن الليبي المحتدم وتوجيه التحية إلى الراحل النبيل، فقد جرى التنبه إلى أن الكتابة عن الفقيه هي أيضا كتابة عن ليبيا، وهو أحد أسمائها الساطعة وأعلامها البارزين ستة عقود، وإن كانت الجوائز والتكريمات العربية قد قفزت عنه برشاقة غزال.
لقد رحل الرجل (76 عاماً)، بالتزامن مع اشتداد النزف الليبي، وبعد مضي أربعة أسابيع على الحملة العسكرية ضد طرابلس، وضد الحلول السياسية. وغاب في الأسبوع الأخير من حياته عن صفحته في "فيسبوك"، وقد انعكست مأساة بلده وشعبه على رحيله المأساوي. وهو الذي كان يعاني من مرضٍ عضال، يتطلب انتقاله إلى مراكز طبية متقدّمة لعلاجه. ومن يشاهد مقابلة تلفزيونية أجريت معه في سبتمبر/ أيلول الماضي، يلحظ الإعياء والكمد الشديديْن على قسمات وجهه. وفي هذا التسجيل يشكو من أن السفارة البريطانية، ثم الأميركية، تباعا قد رفضتا منحه تأشيرة سفر لغايات العلاج. هذا علماً أنه أقام في بريطانيا نحو عقد، كما أنه صاحب اسم أدبي مرموق لا يحتاج إلى التعريف به. وكانت شكواه بحق بلاده وسلطاتها الجديدة التي لم تتحرّك لتأمين علاجه وتسهيل سفره. وإلى التأشيرة الممتنعة عليه، شكا أحمد إبراهيم الفقيه من أنه لم يتحصل على حقوق مالية (رواتب أساساً) نظير خدمته الرسمية، وكانت آخر الوظائف التي تولاها عضوية في ممثلية بلاده لدى جامعة الدول العربية. وكان صاحب أطول رواية عربية (خرائط الروح، 12 جزءاً) واضحا في تركيزه على أنه لا يطلب عونا أو مساعدة أو إحسانا، بل أن يتحصل على حقوقه الوظيفية فقط. وقد أفاد، في هذا المعرض، بأن المجلس الرئاسي قد أمر بصرف المستحقات، لكن الجهة المولجة بالتنفيذ لم تصدع لأمر الصرف.
على هذا النحو، تُرك الفقيه لقدره، فقصد، في الأسبوع الأخير من حياته، أحد مستشفيات 
القاهرة، على الرغم من إدراكه عدم توفر العلاج له، ملتمسا، كما يبدو، وقف تدهور وضعه الصحي، لا غير، ولكن القدر لم يمهله طويلا، وإذا بخبر رحيله يظهر في المواقع الإلكترونية الليبية مجاورا لأخبار المعارك على تخوم طرابلس، وتقارير منظمة الصحة العالمية عن أعداد الضحايا. ولكأن هذا الرجل الدمث والمسالم قد سقط في غمار هذه الحرب العبثية وفي سياقها. وقد أمضى سنواته الأخيرة في التعريف بأعلام الثقافة والفن والصحافة في بلاده، محاولا، عبر هذه الإضاءات، استنهاض همم الليبيين للإعمار والبناء الروحي، باستلهام سيرة أولئك الرموز، وبالذات من كانوا يرحلون تباعا عن دنيانا من دون أن ينالوا ما يستحقونه من اهتمام، وذلك وسط الفوضى التي ضربت البلاد، قبل أن ترتقي هذه الفوضى إلى جنون عسكري.
ولم يكن مستغربا، في ظل هذه الأجواء، أن يقيم الفقيه خارج وطنه، وفي البلد الأقرب إلى ليبيا وهو مصر، والذي شدته روابط قوية إلى أجوائها ورموزها الثقافية، وإلى مجمل الحياة الأدبية فيها. وكان منجذباً إلى الدور النهضوي لمصر، وإلى صداقاته المتشعبة فيها التي تُنجيه من الشعور بالغربة في بلد آخر، مثل بريطانيا، سبق أن أقام فيه، وظل يتردد إليه كلما حانت الفرصة لقضاء إجازات أو متابعة ترجمة لأحد كتبه، أو للعلاج، فلما اشتد احتياجه إلى المملكة المتحدة للعلاج فيها، إذا بالسفارة البريطانية تحرمه من التأشيرة.
وكانت اللعنة البغيضة التي حاقت به أنه عمل سفيرا في أثينا وبوخارست إبان عهد معمر 
القذافي. علما أن كثرة من كبار العاملين في المؤسسات الرسمية، وبينهم سفراء، لم يكونوا على رضى عن القذافي وسياساته. وكان من حق الجميع العمل في مؤسسات الدولة التي هي، في النهاية، مُلك لليبيين، وليس لنظام بعينه. وعلى حد تعبير السفير في الأمم المتحدة، عبد الرحمن شلقم، في لقاء تلفزيوني، كان الجميع يعملون في الدولة، فإذا ما تم تصنيف هؤلاء أنهم جزء من العهد السابق، فإن أحداً لن يكون بمنجاةٍ من هذا التصنيف، ولا سيما أن البلد شهد إضعافا للقطاع الخاص والمؤسسات المستقلة. ويستبعد هذا التقييم، بطبيعة الحال، الدائرة الضيقة بالدكتاتور أو عتاة الأجهزة الأمنية أو من أصابوا ثراء واسعا عبر طرق غير مشروعة، وبالتقرّب من الدكتاتور. وكان الفقيه بحاجة للكتابة في الصحف والمجلات العربية لكي يتمكن من تدبير أمور معيشته، إذ كان يسهل حرمانه وحرمان غيره فجأة من أي موقع، بسبب واهٍ أو بغير سبب. ناهيك عن سلب الشخص حياته، إذا ما تم اشتمام رائحة معارضة لديه، وكان النظام آنذاك يتفنن في مطاردة معارضيه وتصفيتهم في عواصم الدنيا.
وقد ظل الرجل يحلم بأن تُرزق بلاده بدولةٍ طبيعيةٍ، يكون فيها شأنٌ للنخب من علماء ومفكرين وأكاديميين وأدباء وفنانين وسواهم، وأن تتمتع بلاده بالمكانة الحضارية التي يُضفيها هؤلاء عليها، من دون أن يطالبوا باتخاذ مواقف سياسية. وكان يروقه أن مصر ظلت، إلى سنواتٍ قليلةٍ، تحترم كبار مفكريها، على الرغم من تقلب العهود، وبصرف النظر عن ألوانهم الفكرية ورؤاهم السياسية المبثوثة ضمنا في مؤلفاتهم. وقد اصطدم حلمه بدخول بلاده في نفق مظلم، بعد انبلاج فجر إطاحة الدكتاتور. وقد ترافق ذلك مع الانحدار التدريجي في وضعه الصحي، بيد أنه واصل الكتابة والنشر بغزارة. ويصعب حصر مؤلفاته التي تزيد عن الستين (أغلبها في الرواية والقصة)، بما في ذلك على موقعه الإلكتروني الذي بقي بغير تحديث، نظرا لنشرها في دور نشر مختلفة. ومن آخر كتبه رواية "خالتي غزالة تسافر في فندق عائم إلى أمريكا"، التي صدرت في مايو/ أيار 2018 عن "روايات الهلال" المصرية.
ومع مواكبته للأعلام الراحلين في بلاده، فقد رافقه هاجس الموت في السنوات العشر الأخيرة، مع رؤى عرفانية تخاطب الغيب، وقد عكس ذلك في كتابه "قصص من عالم العرفان"، التي بنى فيها قصصا إشراقية عن كبار الأعلام الراحلين، إضافة إلى إصدار سيرة ذاتية في ستة أجزاء. وعلى هذا النحو، كان الفقيه يسابق الزمن، وقد انعكس ذلك على دائه الذي أخذ يتخذ سمة المباشرة والتشويق والتعظيم من شأن الحكاية، ومع شيءٍ من التضحية بعناصر السرد الأخرى.