لم يكن الرجل يعاني من أي شيء، وفقاً لعائلته، والتي أكدت أنه كان بصحة ممتازة، حتى إنه عقد قبل وفاته بساعات اجتماعات ولقاءات سياسية في منزله. بالتالي كان وقع خبر وفاته صادماً وغير متوقع. ويرتبط اسم الجلبي بتاريخ حافل من المراحل الصعبة والتحوّلات السياسية في العراق. وقد وُلد في قرية قرب مدينة بعقوبة، شرقي العراق، لأسرة محافظة خدمت في البلاط الملكي، إبان فترة حكم الملك فيصل الأول (1921 ـ 1933). وغادر العراق مع أسرته في عام 1956، إلى الولايات المتحدة، حيث أكمل البكالوريوس ثم الماجستير ونال الدكتوراه من جامعة شيكاغو في فلسفة الرياضيات الحديثة. بعد ذلك، تولّى مناصب مصرفية مهمة، أبرزها رئيس مصرف "البتراء" الأردني، واتُهم من خلاله بالاختلاس، في عام 1992، وحكمت عليه محكمة عسكرية أردنية بالسجن المؤبد غيابياً.
أسس الجلبي حزب "المؤتمر الوطني العراقي" الذي نال تأييداً من واشنطن في عام 1992، تحديداً عقب الغزو العراقي للكويت (1990 ـ 1991)، والذي ساهم خلالها في جمع المعارضين للرئيس العراقي الراحل صدام حسين في تكتّل واحد، قادوا حملة واسعة بدعمٍ أميركي لإسقاط النظام آنذاك.
في نهاية التسعينيات زاد الرجل من تحرّكاته، وعقد مؤتمراً في واشنطن مطلع عام 2003، قبيل غزو العراق (مارس/آذار ـ أبريل/نيسان 2003)، حضره أعضاء بارزون في الكونغرس الأميركي. أعلن الجلبي في المؤتمر أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، وتعاون مع زعيم "القاعدة" أسامة بن لادن في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
اقرأ أيضاً: تحدّيات معركة الأنبار: الحكومة تتفرّج والعشائر تتولى المهمة
لم يدم صعود الجلبي طويلاً، إذ سرعان ما أوقفت إدارة بوش تمويل حزبه، وتراجعت عن دعمه، بعد سلسلة الخسائر البشرية للجيش الأميركي، مع انطلاق حركة المقاومة العراقية للاحتلال في مدينة الفلوجة، والتي اتسعت لاحقاً إلى مدن أخرى. ودبّ الخلاف بين الجلبي والإدارة الأميركية التي اكتشفت زيف ادعاءاته امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، والمبالغة في كلمته المشهورة للأميركيين إن "العراقيين سيستقبلونكم بالورود". كذلك اعترفت الإدارة أن "مشروع حلّ الجيش العراقي السابق كان خاطئاً".
أدى توتر العلاقة مع الأميركيين إلى إجراء الجلبي تحوّلات كبيرة سياسياً، وبدأ يعوّض عزلته وفشله السياسي بالتقرّب من الزعامات الدينية وخلفهم طهران، وأخذ يكثر من زيارته إلى مراجع الدين في النجف، وخصوصاً المرجع علي السيستاني.
دفع كل هذا الجلبي لإنشاء تكتل ديني جديد، بعنوان "البيت الشيعي العراقي"، ضمّ كتلاً وأحزاباً وحركات دينية مذهبية، شكّلت النواة الأساس لـ"التحالف الوطني" الحالي. ورسّخ بالتالي مبدأ "المحاصصة الطائفية" بالعراق، بين السنة والشيعة والأكراد، واكتسب عداءً واضحاً للأقليات المسيحية والصابئية والتركمانية، بسبب تهميشها في طروحاته. وقد قاد الرجل عدداً من محاولات الانقلاب، بالتعاون مع معارضين أكراد ومليشيات مقربة من إيران، أهمها "مليشيا بدر"، لكنها باءت بالفشل، وحُكم عليه في بغداد بالإعدام غيابياً مع آخرين.
وكان أحد شيوخ العشائر البارزين في العراق، من الذين يعرفون الجلبي عن قرب، قد قال لـ"العربي الجديد"، العام الماضي، إنه "صادف أن سألت الجلبي في أحد لقاءاتنا عن سبب تقرّبه من إيران، وهو الليبرالي العلماني، فردّ علي قائلاً: تصوّرتُ أنني سأنجح من دون الدعم الإيراني، ولكني فشلت، حتى إنني لم أتمكن من الحصول على مقعد واحد في الانتخابات (2005)، فاكتشفتُ عندها أن الذي لا تدعمه إيران، لا يمكن أن يصبح سياسياً ناجحاً في العراق".
وفي الانتخابات الأخيرة التي جرت في 30 أبريل/ نيسان الماضي، انضم الجلبي، كعضو مستقل، إلى "كتلة المواطن"، التابعة لـ"المجلس العراقي الإسلامي الأعلى" بزعامة عمّار الحكيم، المدعومة من طهران، وهي إحدى الكتل الرئيسية المنضوية تحت "الائتلاف الوطني"، على الرغم من امتلاكه مقعداً واحداً فقط. واتُهم الجلبي محلياً ودولياً بتنفيذ عمليات اغتيال لضباط الجيش السابق، وعلماء ذرّة عراقيين، ورُفعت ضده دعاوى في محاكم عراقية، لكنها لم تصل إلى حدّ إصدار مذكرة توقيف بحقه.
وتولّى الجلبي مناصب حكومية عدة، أبرزها وأكثرها جدلية، "هيئة اجتثاث حزب البعث"، والتي أشرفت على إقالة نحو مليون ونصف المليون عضو في "البعث" من وظائفهم، كما أُقيل عشرات الآلاف من أعضاء جهاز الأمن الخاص والاستخبارات، قبل أن يُقال من منصبه بصفقة سياسية، حوّلته في ما بعد إلى عضو في البرلمان.
وعلى الرغم من حصول ثلاثة انتخابات ديمقراطية في العراق، واحدة منها بإشراف الأمم المتحدة، الا أن حزب "المؤتمر" لم يحرز أي نتائج مرجوّة، بل ظلّ عدد مقاعده يتراوح بين مقعدين وثلاثة مقاعد من أصل 300 مقعد برلماني.
أمس، انتهت حياة الرجل الحافلة بالجدلية محلياً وعالمياً، فمنهم من يراه سياسياً عراقياً روّج وشجّع مهمة احتلال بلاده، ومنهم من يراه مجرّد باحثٍ عن ثأرٍ شخصي مع صدام حسين الذي سلبه كل شيء. رحل الجلبي الذي رثته أحزاب وشخصيات عراقية بارزة لكن بصماته ما زالت واضحة على الوضع العراقي منذ عام 2003 وحتى اليوم.
اقرأ أيضاً: البرلمان العراقي يُقيّد العبادي وإصلاحاته