من أصل 58 مطبعة في بغداد، هناك نحو 40 منها، اعتذرت من زبائنها عن استقبال أية طلبات جديدة لطباعة الكتب والمجلات والدوريات العلمية، أو حتى المناهج الدراسية. فالأحزاب السياسية بدأت هذه المرة مبكراً في التحضير للانتخابات المحلية، المقرر إجراؤها في سبتمبر/أيلول المقبل، وهو ما يكشف عن التنافس الكبير بين كتل وأحزاب التحالف الوطني، المقرب من إيران، الذي يسيطر على الحكم منذ نحو 13 عاماً.
وعلى الرغم من صدور تقارير وبحوث محلية تشير إلى عزوف كبير متوقع للمواطنين عن المشاركة في الانتخابات المحلية، بسبب الأوضاع العسكرية والأمنية والاجتماعية التي تمر بها البلاد، ويأسهم مما وصفوه بإعادة انتخاب نفس الأحزاب والشخصيات كل مرة من دون تغيير، إلا أن ذلك لم يفقد الأحزاب السياسية هوسها باللافتات والشعارات التي تتحدث عن وعود بأمن ورخاء دائم في العراق. ويقول عمال وموظفون في تلك المطابع إن غالبية الطلبات يجب أن تكون جاهزة للتسليم منتصف يونيو /حزيران المقبل، وتم دفع مبالغ مقدمة كعربون، من الأحزاب والكتل، لأصحاب تلك المطابع، لتجنب تكرار فوضى المطابع عام 2014، عندما لم تجد بعض الأحزاب من يطبع لها شعاراتها بسبب ازدحام الطلبات لديها.
ووفقا لسياسيين عراقيين في بغداد فإن غالبية الشعارات مكررة للمرة السادسة على التوالي، وهو عدد مرات الاقتراع التي تمت في العراق منذ الاحتلال في العام 2003. ويقول عضو الحزب الشيوعي العراقي، طالب حسين، لـ"العربي الجديد"، إن "الشعارات نفسها تتكرر، مثل توفير الماء والكهرباء وبناء المساكن وتوفير الأمن ورعاية الشباب وفئة الأرامل والقضاء على البطالة والفقر، وما إلى ذلك من تلك الشعارات. ولو عدنا إلى انتخابات عام 2006 لوجدناها نفسها ترفع من قبل الأحزاب الدينية، وهي بطبيعة الحال، وبشكل لا يقبل الشك، تكذب على العراقيين. إن السياسيين يزدادون غنى عند كل انتخابات، ويزداد العراقي فقراً، هذا إن حالفه الحظ وبقي على قيد الحياة ولم تحصده مفخخة أو سلاح كاتم للصوت".
وهذا ما يؤكده القيادي في التيار المدني العراقي، جمال محمود، بقوله إن "الشعارات لم تتغير مطلقاً، وبعض الأحزاب ستخرج علينا بنفس الشعارات التي رفعتها في الانتخابات الماضية". ويضيف محمود، لـ"العربي الجديد"، إن "نفس الوجوه ونفس الشعارات جعلت الشارع يسأل إلى متى نبقى في هذه الدوامة"، لافتاً إلى أن "الأحزاب أنفقت في انتخابات عام 2014 نحو مليار دولار على حملاتها الانتخابية، وفقاً لأرقام منظمة الشفافية العراقية ومفوضية الانتخابات نفسها، وهذا مبلغ كان يمكن من خلاله تغيير حال آلاف العوائل التي لا تزال ترزح تحت خط الفقر المدقع"، مبيناً أن حجزهم للمطابع من الآن بمثابة استخفاف أو استغباء للشارع العراقي للمرة السادسة على التوالي.
جاسم العقابي، أحد المستفيدين من الانتخابات، بحسب قوله، يؤكد أن "الأحزاب والسياسيين ليس لهم من نفع سوى في فترة الانتخابات، إذ تنتفع بسببهم مجموعة من المواطنين". وأوضح العقابي، الذي يعمل مصمماً في مكتب للإعلانات، أنه "في فترة الانتخابات يقبل المرشحون، وهم بالآلاف، لعمل دعايات انتخابية، فيبدأ الانتفاع، من المصور إلى مكاتب التصميم والمطابع والموزعين وسيارات النقل والعمال، والكثير من المهن تنتعش كونها تدخل في هذه العملية". وأضاف، لـ"العربي الجديد"، "أما غير ذلك فليس من وراء العملية الانتخابية غير الضرر، إذ يتنازع السياسيون، بعد فوزهم، على المناصب والمنافع، وتبدأ روائح الفساد تفوح من مكاتبهم، والفضائح تظهر للعلن، فيما كانوا أثناء الحملات الانتخابية يرفعون شعارات وطنية نزيهة". ويؤكد العقابي أن بعض المرشحين، الذين تعاون معهم لتصميم دعاياتهم الانتخابية، كانوا يطلبون منه إظهارهم بمظهر يدل على التقوى والورع. وقال "كان بعضهم يطلب مني أن أضع بجانبه في ملصقاته الدعائية صوراً لضريح الإمام الحسين، أو الإمام علي بن أبي طالب، والبعض يطلب وضع آيات قرآنية تدل على الإيمان بالله، والعمل من أجل الخير والتأكيد على منهج الصلاح في الدنيا، والسير في طريق الخير لأجل الناس"، مبيناً "كنت أعلم أنها دعائية لكسب ود الناس لا أكثر". أما ضياء راشد، فيتمنى أن تستمر الانتخابات على مدار العام، إذ أنعش ظهور الأحزاب الجديدة، وانطلاق الانتخابات المحلية والنيابية، عمل المطابع. وقال راشد، لـ"العربي الجديد"، إن "ما يهمنا اليوم هو لقمة العيش. نحن فقراء وليس لنا سوى العمل لدرء الجوع. بالنسبة لي أرحب بأي مرشح تدخل صورته آلتي الطباعية. وسأعتني بصورته كثيراً، فكلما كانت الطباعة جيدة ومن دون خلل ارتفع أجري في سوق الطباعين".
قص الأصابع
"أقص أصبعي" عبارة أخذت بالانتشار بين العراقيين، كدليل على مقاطعة الانتخابات. ففي عملية الاقتراع، يتطلب من المواطن المقترع أن يدخل سبابة كفه الأيمن في محبرة خاصة، فيتلون باللون الأزرق. واشتهرت صور عديدة خلال الانتخابات لمواطنين يرفعون أصابعهم الملونة بالحبر أمام الكاميرات، في دليل على مشاركتهم في الانتخابات. وتكشف، لـ"العربي الجديد"، خلال جولة وسط بغداد، لمعرفة آراء العراقيين حول الانتخابات المقبلة، أن الشعور بالخذلان السمة التي تغلب عليهم، بعد تأكيدهم أن أياً من الوعود التي وعدوا بها من قبل الأحزاب لم تتحقق، وهذا ما يدعوهم إلى مقاطعة الانتخابات. زينب صالح (58 سنة)، تقول إنها فقدت أحد أولادها في معارك تحرير الأنبار نهاية العام الماضي. وأوضحت "ابني تطوع في الجيش بعد أن عجز عن الحصول على وظيفة. الوزارات التي تقدم للتعيين فيها تقول إنه ليس لديها وظائف، لكن المسؤولين كانوا يعينون في تلك الوزارات بمقابل رشوة". وتضيف "هل أعانني من انتخبتهم في السابق؟ وهل سيعيد من سأنتخبه ولدي إليّ؟ أقص أصبعي إن انتخبت مرة أخرى".
حيدر نجم، شاب نحيف يعمل في بيع الشاي بشارع الرشيد وسط بغداد، قال، لـ"العربي الجديد" أثناء حديث مع مجموعة من زبائنه وهم يحتسون الشاي، "لن أنتخب. أختار أن أقص أصبعي، ولا ألونه بالأزرق هذه المرة". وخلال حديثهم عن أسباب رفضهم الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات مرة أخرى، يتفق العراقيون على عدم تحقيق الأحزاب والمرشحين الذين فازوا بالانتخابات أيا من الوعود التي قطعوها، كما يتفقون على أن الانتخابات ليست الا وسيلة للتسلق على رقابهم، ويؤكدون أن الفائزين حصنوا مستقبلهم ومستقبل أولادهم فيما تركوا العراقيين يصارعون الموت والفقر والتشرد.
يشير نبيل الزويني، وهو صاحب متجر لبيع المواد الغذائية في سوق الشورجة ببغداد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى شاب لم يتجاوز العشرين عاماً بعد، ليبين سبب رفضه المشاركة في الانتخابات مرة أخرى. وقال "ذلك الشاب الذي يجر العربة هناك، لقد ترك دراسته بعد مقتل والده الذي كان يعمل عتالاً على العربة نفسها". وأضاف "والده قتل في تفجير إرهابي، فترك أسرته بلا معيل، فالوالد ليس له راتب من الدولة، ويعيل عائلته من العتالة. رأيته خلال الانتخابات الماضية يشارك طوعاً في حملة دعائية لأحد المرشحين، لكن هذا المرشح الذي فاز وأصبح عضواً في البرلمان لم يأبه لمقتل هذا الفقير". وتابع "ليس هناك أكثر من القصص المأساوية التي نعيشها ونمر بها، وليس هناك أكثر من الأسباب التي تدعونا لعدم المشاركة مرة أخرى في الانتخابات. السياسيون يتسلقون على رقابنا للوصول إلى الحكم والحصول على مغانم وثروات". وتابع "أين وعودهم وشعاراتهم التي ملأوا بها الطرقات والمباني وكل شيء؟ لقد كانت المطبوعات والملصقات الدعائية، بكافة الأحجام، تنتشر في المدن، وكلها تحمل وعوداً وردية، لكن ما تحقق هو مشاهد سوداوية ودموية".