وعندما اختار السيسي الشخصيات الثلاث، أبو العلا وأبو العزم وخليل، كان يتعمد إبعاد عدد من القضاة غير المحسوبين على النظام، أو المصنفين كمعارضين، أو لوجود علاقة بينهم وبين تيار استقلال القضاء، وتحديداً النائب الأول لرئيس محكمة النقض المستشار أنس عمارة، والنائب الأول لرئيس مجلس الدولة وصاحب حكم بطلان التنازل عن تيران وصنافير للسعودية، المستشار يحيى دكروري، والنائب الأول لرئيس هيئة قضايا الدولة والعضو السابق باللجنة الاستشارية القانونية لرئاسة الجمهورية في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، المستشار محمد ماضي. ولكي يتهرب السيسي آنذاك من شبهة التصنيف السياسي للقضاة، وينفي عن نفسه حقيقة اعتماده على التحريات الأمنية لاستبعاد قضاة بعينهم من تولي مناصب كانوا يستحقونها، روج النظام عبر وسائل إعلامه آنذاك لزعم أن اختيار المستشارين الآخرين يعود لسبب موضوعي، هو أنه ما زال أمامهم عامان قبل بلوغهم سن التقاعد (يونيو/ حزيران العام 2019)، وأن السيسي بذلك قد اتخذ قراراً يضمن الاستقرار في تلك الهيئات، لأطول فترة ممكنة، تمكيناً لها من تنفيذ برامجها وأهدافها، وعدم تغيير توجهاتها الإدارية.
لكن السيسي هذا العام، ولدى اختياره المستشارة أماني الرافعي لرئاسة النيابة الإدارية، خالف تماماً السبب المعلن لضمان استقرار إدارة الهيئات، بل إنه اعتمد على التحريات الأمنية وحدها بشكل واضح لاختيار رئيسة الهيئة التي تتولى، بحسب الدستور، سلطة التحقيق مع موظفي الدولة. فأماني الرافعي كانت تحتل المركز الثاني من حيث الأقدمية من بين الأسماء الثلاثة المرشحة لرئاسة الهيئة، بعد المستشار صبري الطايفي، وقبل المستشارة فاطمة غرابة، وبالتالي فالأقدمية أهدرت. وإذا كان الهدف هو استقرار إدارة الهيئة، فإن اختيار غرابة كان هو الأكثر منطقية وتطبيقاً للادعاء الحكومي المعلن، العام الماضي، لأن غرابة ستبلغ سن التقاعد في يونيو/ حزيران 2020، أي أنها كانت ستتولى رئاسة الهيئة عامين، بينما ستبلغ الرافعي سن التقاعد بعد عام واحد فقط من اليوم، ما يعني أن السيسي سيتدخل العام المقبل أيضاً لتعيين رئيس جديد للهيئة.
مصادر قضائية وحكومية مطلعة أكدت أن التقارير الأمنية والرقابية التي طلبتها رئاسة الجمهورية للمفاضلة بين الرافعي وغرابة جاءت متعادلة، فكلتاهما تدينان بالولاء للنظام، ولا توجد أي انتماءات سياسية أو آراء معارضة لأي منهما، كما لم تترك أي منهما أي بصمة في عملها القضائي، تماماً كسابقتهما فريال قطب التي اختارها السيسي لكسر قاعدة الأقدمية فحسب. إلا أن أفضلية الرافعي جاءت من حالتها الأسرية والاجتماعية، فهي زوجة الضابط السابق بجهاز أمن الدولة، اللواء محمد سعيد جميع، والذي ينتمي لأسرة جلها من ضباط الشرطة والجيش. وهذه هي المرة الأولى التي تتولى فيها رئاسة هيئة قضائية سيدة متزوجة من ضابط شرطة، ويكون هذا الأمر أحد عوامل اختيارها لهذا المنصب الرفيع، الأمر الذي يثير غضباً مكتوماً في الأوساط القضائية، خصوصاً بين الدوائر التقليدية المتمسكة بالأقدمية، والتي تعتقد أن إسراف السيسي في التدخل في شؤون القضاء أدى لتراجع سلطات القضاة وهيبتهم الاجتماعية وأهدر الندية التي كانت تميز تعاملهم مع أجهزة الدولة المختلفة. يذكر أن المحكمة الدستورية العليا تلقت في وقت سابق هذا العام ثلاثة طعون على القانون الذي يخول السيسي سلطة التدخل لتعيين رؤساء الهيئات القضائية. ولم تحدد المحكمة جلسة للنظر بتلك الطعون حتى الآن، ما أدى لانتهاء العام القضائي الحالي (الذي ينتهي بنهاية الشهر الحالي) من دون حصول أي من القضاة المستبعدين من رئاسة الهيئة على حقوقهم الأدبية أو المادية جراء استبعادهم.