الحاجز الأخير الذي سقط كان عناصرُه قبل قليل يلعبون لعبة التّلويع الأخيرة، اللعبة تقوم على قاعدة بسيطة ألا وهي تشابه الأسماء حيث يكون السؤالُ الموجّه من العنصر إلى العابر: هل أنت أنت؟
عادةً يتلعثمُ العابرُ في الإجابة، إذ من قواعد اللعبة أن يكون أحد الاثنين هو أنت ولا يُدرى أيهما سيقع عليه الاختيارُ ليكون يوسفَ في غياهب جبِّه أو يونسَ في ظلمة الحوت أو إبراهيمَ في نار الحقد الكبيرة، كما لا يُدرى أي الضميرين سيكون سفينةَ نُوحِه التي ترفع الأسماء من شَرَكِ الطوائف والصيادين العتاة وقناصة الهوية. هل أنت أنت أم أنت هو؟ يحدثُ أن تكره اسمك لوهلةٍ أو تحقدَ على أسلافِك الذين ورَّثوك اسمَ العائلة أو مكانَ الإقامة أو حتى رقمَ الخانة، تلفظُك الحياة على الحاجز كما تلفظُ البارودةُ نحاسَةَ الفوارغ ساخنةً حدّ الحرق لكنها ليست ذات معنى، لذا لايلتفتُ إليها أحدٌ، وربما كانَت دليلا جنائيا في أكثر ما يمكن أن تكونَه ذات فائدة في تحقيقٍ لن يفضي إلى نتيجة. هل أنتَ هي؟ تقول الرواياتُ بأنّ صفاتٍ كثيرةً وَرِثْتُها عن أمي مثل انكساري في كل تلويحة وداع وبكائي في شتاءات التذكر وغصتي كلما أكلتُ من الأكلة المفضلة لدى من ودعوني حين ترحّلْتُ عنهم، ولأن الضمير الثاني في التساؤل الأخير مؤنثٌ فلابدَّ أنه قد يعني المنطقة، فقد كانت كلُّ منطقةٍ تمنحُ أبناءها صفاتٍ جمعيةً يتداولها الناس في أحاديثهم، مثل دماثة أهل حمص ودير الزور وكرم أهالي البادية وبساطة أهل الساحل وبراءة أهل الريف... إلخ. هل أنت؟ غيابٌ كاملٌ عن الواقع أدخلُ فيه فلا يصلني باقي السؤال، ولا يعتريني ذنْبُ الضمير التالي، الضمائرُ لعبةٌ أزليةٌ منذ أولِ جريمةِ بيعِ ضميرٍ، لاضمير حيٌّ ولا ضمير حاضرٌ ولا الغائبُ محضُ غائبٍ ولا المُتّصِلُ متواترُ الاتصال، الضمائرُ زينةٌ في الكلام وسيميائيةٌ في الصُّوَرِ وغائمةٌ في الحقيقة، قُلْ لي من تعارضُ أقلْ لك من أنت، ومن تحاربُ أقلْ لك من أنت، ولمن تقرأُ ولمن تستمعُ وفيمَ تقضي وقتَك وأينَ ومن اعتقلك أقلْ لك من أنت، أنت وحدك الآن تواجِه ضميرَك المُخاطَب وعليك أن تعرف كيف تجيبُ على السؤال في لعبة التّلويعِ التي يمارسُها الآن عنصرٌ يجيدُ اصطيادَ جفافِ حلقِك وتسارعِ نبضِك وانخطافِ لونِك، تلطّفْ بنفسك ولا تُبدِ له كلّ ذلك، واخترْ جواباٌ موارباً لتتركَ للضمير الذي ستختارُه مُجيباً مَجالاً للمناورة. قلْ له: أنا من هناك ولكنّ البلادَ تُغيّرُ سكانَها كلّ حينٍ لأسبابٍ كثيرةٍ، واسمي هو اسمي مصادفةً وما قيل عن أنه لكلّ امرئٍ من اسمه نصيبٌ هو افتراءٌ أو افتراضٌ، والذين كانوا مسؤولين عن توريثي ما قد يؤخذ عليَّ لم يعلموا أني سأخالفُهم كثيراً كي أنالَ حظَّ العابر دون ثقبٍ في الرأس أو قيدٍ مُترافقٍ مع ما لا يمكن أن يُنسى من الظلام الموحشِ. هيّا تمالكْ نفسَك قليلاً، انظرْ في عينِه تماماً وابتسمْ للكاميرة المثبتة في مكانٍ ما من الحاجز كما يَدّعون، ابتسمْ له ولها فهو حتما لا يعرفُ من أنت، ولا هي ستستطيع أن تأخذ صورةً لروحك الممتلئة حقداً على ضمائرهم "الحيّة". ابتسمْ قليلاً فقط كي لا تبدو أحمقَ مثلَ ولدٍ يخطبُ خطابَ الموتِ على مسامع الناس وهو يقهقه. ابتسمْ للكاميرة قليلاً واضحكْ منها كثيراً حين تجتازها كأنها من حلقات الكاميرة الخفية. هل أنت أنت؟ السؤالُ بدا جديّاً هذه المرّة والكلُّ ينظرُ إليك منتظرين منك إجابةً تنهي اللعبةَ فافعلها. فعلتُها ورمى العنصرُ هويتي الشخصيةَ في الهواء بمهارةٍ وكأنه صفعَني بها. وقتها تنفسَ الناسُ الصّعداءَ وعبَرتْ حافلتُنا الحاجزَ بعد أن بدتْ على العنصرِ علائمُ الرضا عن الذاتِ والضميرِ لأنه انتصرَ في اللعبة، واستطاعَ أن يلوّعَ قلوبَ وضمائرَ جميع العابرين.
الحاجزُ الذي تمَّ مسحُه لم تحمِه الكاميرةُ الخفيةُ ولا النفوسُ الهشّةُ ولا جودةُ اللعبِ ومهارةُ الإذلال، وها هو ذا أثرٌ بعد عين، رأيتُ على شاشة التلفاز مكانَه وقد وقفَ على تلَّتِه رجلٌ واحدٌ يلوّحُ للذين عبروه طوالَ سنواتٍ، وشاركوا العناصرَ مُرغمين لعبتَهم، مُشيراً إليهم بسبّابته: هل أنتم أنا؟
(سورية)