وتعد اعتداءات يوم الجمعة الأسوأ والأكثر فظاعة من نوعها منذ العام 1945 تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أنها أول اعتداءات إرهابية في أوروبا ينفذها انتحاريون. ولم يتأخر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أمس السبت، في إعلان مسؤوليته عن الاعتداءات، بعدما كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، قد أشار بأصابع الاتهام إلى التنظيم.
ساعات الرعب الثقيلة
بدأت الاعتداءات في العاصمة الفرنسية مع سماع دوي انفجار أول عند الساعة التاسعة وعشرين دقيقة من مساء الجمعة بالتوقيت المحلي لفرنسا، بينما كان هولاند يتابع في المنصة الشرفية لملعب "ستاد دو فرانس" بضاحية سان دوني قرب باريس، وقائع المباراة الودية التي جمعت المنتخبين الفرنسي والألماني لكرة القدم. ثم تلاه انفجار ثان وثالث على بعد 400 متر من الملعب. التفجيرات الثلاثة سبّبها تفجير انتحاريين لأنفسهم، ما أسفر عن مقتل مواطن، وتبين بسرعة أن الحدث جلل فتم إخراج الرئيس الفرنسي بسرعة من الملعب.
وفي التوقيت نفسه تقريباً، أي التاسعة وعشرين دقيقة، دخل رجل مسلح إلى حانة "لوكاريون" في قلب الدائرة الخامسة على بعد خطوات قليلة من مبنى جامعة "سوربون"، وفتح النار بشكل عشوائي على مرتادي الحانة، ثم وجّه رشاشه إلى الجهة المقابلة مستهدفاً مجموعة من زبائن مطعم "لو بوتي كامبودج" كانوا يتناولون الطعام في المطعم ما أسفر عن مقتل 14 شخصاً.
وفي موازاة ذلك، نزل رجلان مسلحان برشاشي كلاشنكوف من سيارة مركونة في شارع "شارون" بالدائرة الحادية عشر، ودخلا إلى حانة "لابيل ايكيبي" وأطلقوا أكثر من 100 رصاصة وكانت الحصيلة 19 قتيلاً وعشرات الجرحى.
وفي الأثناء دخل أربعة مسلحين إلى مسرح "لوباتاكلان" في الدائرة الحادية عشر حيث كانت فرقة الروك الأميركية "أيغلز أوف ديث ميتا" تحيي سهرة غنائية بحضور 1500 شخص. وتمركزوا عند مدخل القاعة وصوبوا رشاشاتهم صوب الحشد. بعد ذلك احتجزوا قسماً من الحضور كرهائن. وحوالى منتصف الليل اقتحمت قوات الأمن الخاصة المسرح لتحرير الرهائن وتم قتل أحد المهاجمين في حين فجر ثلاثة آخرون أنفسهم بأحزمة ناسفة. واكتشف رجال الأمن والوقاية المدنية مجزرة مروعة حيث تناثرت الجثث في جنبات المسرح وعلا أنين الجرحى في مشهد لم تعرفه باريس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فهِمَ الجميع حينها أن حرباً تقع في قلب العاصمة وأن المهاجمين استهدفوا جموع الأبرياء بشكل عشوائي لكن بطريقة منظمة ومتقنة في مواقع عدة وبشكل متزامن، وأن الخسائر البشرية ستكون مرتفعة.
ساد الهلع شوارع المدينة وطلبت السلطات من سكان باريس أن يلزموا منازلهم، وتحركت القوات الأمنية تجوب الشوارع بحثاً عن مهاجمين آخرين قد ينفذون اعتداءات أخرى. وبعد اجتماع أمني عاجل في مقر وزارة الداخلية برفقة كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين، ظهر هولاند على شاشة القنوات التلفزيونية بوجه منقبض وصوت متهدج ليقول للفرنسيين إن باريس مستهدفة من مجموعة إرهابية، ويعلن حالة الطوارئ في البلاد، داعياً إلى التحلي بالهدوء.
ومن بين ما تعنيه حالة الطوارئ غير المسبوقة التي تشمل كافة الأراضي الفرنسية، أن الأمن سيكون فوق كل اعتبار وأن بعض المرافق قد تُغلق، كما أن حركة السير قد تُعلّق في أي مكان وأية لحظة. وهو ما تم البدء فيه بالفعل مع قرار هيئة النقل بفرنسا إغلاق عدة خطوط للمترو في باريس، كما تم أقفال برج إيفل لأجل غير مسمى.
أما القرار الثاني الذي اتخذه هولاند فشمل إغلاق الحدود. وبموجب حالة الطوارئ، فإن الحدود ستخضع للمراقبة والجيش والقوى الأمنية بإمكانهما اتخاذ أي اجراء يعتبر أنه مناسب لتفادي الاعتداءات. وبرر هولاند هذا الإجراء بالقول "علينا أن نضمن أن لا أحد سيتمكن من الدخول لتنفيذ أي عمل أياً يكن. وفي نفس الوقت إلقاء القبض" على منفذي الاعتداءات إذا حاولوا الخروج من فرنسا. وفي السياق أيضاً، أفادت وسائل إعلامية أن فرنسا قررت وقف العمل بتأشيرة شينغن، التي تسمح لجميع حامليها بالتنقل بين الدول الأوروبية، وقررت السماح لمواطني الدول الأوروبية فقط بالسفر إلى فرنسا.
كما قرر الرئيس الفرنسي "تحريك كل القوات الممكنة في سبيل شل حركة الإرهابيين وإرساء الأمن في كل الأحياء التي قد تكون معنية". وتابع هولاند "لقد طلبت أيضاً أن تكون هناك تعزيزات عسكرية، وهي الآن في منطقة باريس لضمان عدم وقوع أي اعتداء جديد".
وتعني حالة الطوارئ أيضاً أن الدولة تستطيع فرض رقابة على وسائل الإعلام. وكانت حالة الطوارئ أُعلنت عام 2005 عند اندلاع تظاهرات الضواحي الفرنسية وما تلاها من أعمال تدمير وشغب، غير أنها كانت حالة طوارئ موضعية وشملت مناطق محددة فقط. أما هذه المرة فإنها حالة طوارئ عامة تشمل كل الأراضي الفرنسية وهي تنبع من قانون تم تشريعه عام 1955 خلال الحرب الاستعمارية في الجزائر.
لكن الهدوء لم يكن في المتناول رغم هذه الإجراءات، إذ إن أخبار الهجمات التي كانت تنقلها القنوات التلفزيونية والإذاعية ومواقع الصحف، انتشرت بشكل واسع ومعها الخوف والهلع وصدمة لم يعشها الفرنسيون وسكان باريس طوال حياتهم. كما وضع الآلاف يدهم على قلوبهم خوفاً على أقربائهم الذين قد يكونون من بين الضحايا. ففي بضع ساعات قليلة تحوّلت باريس إلى ساحة حرب وغمرت الدماء الشوارع والمقاهي وكانت صفارات سيارات الشرطة والإسعاف تشق الظلام، في حين انتشرت القوات الأمنية في الشوارع مشهرة أسلحتها بحثاً عن عدو مجهول الملامح قد يكون أي شخص في أي مكان.
في غضون ذلك، كانت آلاف الجماهير قد خرجت من ملعب "ستاد دو فرانس" مرددة النشيد الوطني في ردة فعل عفوية بعد أن شاعت أخبار القتل. وفي حدود منتصف الليل بدأت شوارع باريس تفرغ من السكان الذين سمعوا نداء السلطات ودخلوا بسرعة إلى بيوتهم لمتابعة تطورات الأحداث على شاشات التلفزيون، حيث ظهر للمرة الثانية هولاند محاطاً برئيس الوزراء وكبار الشخصيات العسكرية والأمنية من موقع مسرح "لوباتاكلان" بعد "تحريره". وأعلن أن فرنسا ستتحدى الإرهاب وتقف بوجهه، مذكراً أن حالة الطوارئ ستتيح للبلاد أن تحتوي التهديدات الإرهابية.
اقرأ أيضاً: هولاند يتهم "جيش داعش الإرهابي" بهجمات باريس.. ويشير لسورية
"داعش" يتبنى
تنظيم "داعش" لم ينتظر أكثر من ساعات قليلة حتى يعلن مسؤوليته عن الاعتداء الإرهابي، قائلاً في بيان تداولته حسابات جهادية على موقع "تويتر"، إن "ثمانية أخوة ملتحفين أحزمة ناسفة وبنادق رشاشة قاموا باستهداف مواقع منتخبة بدقة في قلب عاصمة فرنسا، فتزلزلت باريس تحت أقدامهم وضاقت عليهم شوارعها". وهدد التنظيم فرنسا، مؤكداً أنها "على رأس قائمة أهداف الدولة الإسلامية، ما داموا قد تصدروا ركب الحملة الصليبية وتجرأوا على سب نبينا، وتفاخروا بحرب الإسلام في فرنسا، وضرب المسلمين في أرض الخلافة بطائراتهم".
وكان هولاند سبق بيان "داعش"، باتهام التنظيم بالوقوف خلف الهجمات. وقال هولاند في قصر الاليزيه أمس السبت، إن "ما حصل هو عمل حربي، ارتكبه داعش ودبر من الخارج بتواطؤ داخلي سيسمح التحقيق بإثباته". وأكد هولاند إثر خروجه من اجتماع لمجلس الدفاع، أن "فرنسا لن ترحم"، معلناً "اتخاذ كل التدابير لضمان أمن المواطنين في إطار حال الطوارئ"، مؤكداً أن "قوات الأمن الداخلي والجيش متأهبة بأقصى مستويات قدراتها".
لكن وقوع هذه الهجمات في قلب باريس، طرح أسئلة عن إخفاقات للأجهزة الأمنية الفرنسية، خصوصاً بعد الإجراءات الأمنية التي اتُخذت تحديداً في العاصمة، بعد الاعتداء الذي استهدف مجلة "شارلي إيبدو" في 7 يناير/كانون الثاني الماضي وقيام أجهزة الاستخبارات الفرنسية في الشهور الأخيرة منذ الاعتداء الذي نفذه الإخوان كواشي وأميدي كوليبالي، باعتقال عدد من المشتبه في تخطيطهم لاعتداءات دموية في فرنسا. وكان أشد ما يخشاه الأمنيون الفرنسيون هو قيام انتحاريين بتنفيذ اعتداءات في محلات عامة مزدحمة بالناس لإلحاق أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية وهذا في نهاية المطاف ما تمكن من تحقيقه المهاجمون الانتحاريون.
وتتجه الأنظار الآن إلى تحديد هوية منفذي هذه الهجمات، وحسب شهادات بعض الناجين من المجزرة في مسرح "باتاكلان" فإن المهاجمين كانوا حديثي السن وبعضهم كانت تبدو عليهم علامات سن المراهقة وكانوا يتحدثون الفرنسية بطلاقة. كما سجل بعض الناجين أن المهاجمين كانوا يقتلون بدم بارد وبشكل منهجي من دون أن تظهر عليهم علامات الارتباك، وكانوا يطلقون النار بشكل عشوائي على جموع الناس بهدف القتل ومن دون تمييز.
وستكون مهمة المحققين الأولية تحليل أشلاء جثامين الانتحاريين لمعرفة هويتهم وأيضاً تحليل بقايا الأحزمة الناسفة ورشاشات الكلاشنكوف التي استعملها المهاجمون للتأكد من مصدرها. وحسب هذه المعلومات الأولية سيتمكن المحققون من رسم معالم هويات المهاجمين والمحيط الذي عاشوا فيه.
كما بدأت أسئلة تُطرح حول وجود فتاة بين المهاجمين الذي اقتحموا مسرح "لوباتاكلان"، بعدما أكد أحد الناجين من الاعتداء أنه رأى المهاجمين الأربعة وهم يسيرون في قاعة المسرح برفقة بفتاة غير مسلحة كانت تتحدث إليهم. كما يبحث المحققون عن سيارة سوداء استعملها المسلحون وركنوها إلى جانب المسرح واختفت بعد ذلك. وهذا ما قد يعني بأن هناك عناصر أخرى من المجموعة المسلحة التي نفذت الاعتداءات في باريس لا زالت طليقة.
اقرأ أيضاً: هجمات باريس: توتر في عواصم الغرب