أثر الجاليات العربية ودورها في دول أوروبا الشرقية
شهد النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى بداية التسعينيات، إقبالاً كبيراً على المعاهد العليا والجامعات في دول المنظومة الاشتراكية سابقاً، نظراً لتسهيلات كبيرة ومنح مقدمة للتنظيمات الشبابية والأحزاب اليسارية في العالم العربي. وتخرج آلاف الطلاب من تلك الدول، ليحتلوا مناصب مهمة ومختلفة لدى عودتهم إلى أوطانهم. لكن، بقي هناك، لسبب أو لآخر، كثيرون ممن فضّلوا مزاولة الحياة والعمل في دول أوروبا الشرقية، مشكلين، بالتالي، الجاليات العربية المختلفة، وكلها من دول الهلال الخصيب، فلسطين والأردن وسورية ولبنان والعراق.
يبلغ تعداد أعضاء الجاليات العربية في دول أوروبا الشرقية، ما يزيد على مئات آلاف من العرب، يزاولون العمل في مجالات الحياة كلها، ويشغلون مراكز رفيعة، ويمكنهم أن يصبحوا قوّة مؤثّرة في القرار السياسي لهذه الدول.
استبدلت اتحادات الطلاب العامة والتنظيمات السياسية، على أشكالها المختلفة، بمنظمات الجاليات المدنية، الهادفة إلى جمع الشتات، ومحاولة الدفاع عن حقوق المواطنين من أصول عربية ومصالح العالم العربي كذلك.
تمكنت الجاليات من وضع الأسس لتتحرك في المجتمعات الأوروبية ومؤسساتها الحكومية في تسعينيات القرن الماضي، حيث طغى نهج العمل والبحث عن الرزق والنجاح في الحياة العملية، على الاهتمامات السياسية التي تميزت بها الحقبة السابقة، وشاهدنا فعاليات ونشاطات اجتماعية ووطنية كثيرة، جمعت شتات الأجيال، لكن، سرعان ما انتقلت الأمراض الاجتماعية في الشرق إلى هياكل الجاليات في شرق أوروبا، وبدأ الخلاف ينصبّ، بدايةً، على منصب رئاسة الجاليات، وشاهدنا رؤساء جاليات كثراً لا يتنازلون عن مناصبهم سنوات طويلة، مخالفين بذلك الأعراف والقوانين المتعارف عليها، والأنظمة الداخلية لمؤسسة الجالية.
السعي إلى المراكز القيادية و"المخترة"
لم تتمكن قيادة الجاليات العربية من فهم دورها الموضوعي في توزيع الأدوار، وعدم احتكار مسيرة الجالية وعدم تعطيلها، بإلغاء مؤتمراتها السنوية والدورية التي تعمل على تصحيح الأخطاء، وتقديم التوصيات الضرورية، وإعادة انتخاب رئيس الجالية والمجالس الإداري، ويمكن الاطلاع على المواقع الإلكترونية للجاليات، للوقوف على حجم هذه الخلافات، وكأنّ لعنة الكرسي تلاحقنا من مكان إلى آخر.
ويؤدي الخوف من خسارة هذه المكانة، بالتالي، إلى التقوقع وتجنب القيام بالنشاطات، خوفًا من المحاسبة، وترك الأمور على علاتها، بمعنى أن المركب ما يزال يبحر على الرغم من الثقوب والأعطاب التي طالته. وبدلاً من القيام بالفعاليات الأساسية القادرة على جمع شتات هذه الشعوب، مثل يوم الأرض وعيد الأم ورأس السنة وعيدي الفطر والأضحى، نجد رئاسة هذه الجاليات تغطّ في سبات طويل، ويصعب دفعها إلى القيام بنشاطات تذكّر المجتمعات الأوروبية التي نعيش في كنفها، بأنّ هناك أقليات لها حقوق، كما عليها واجبات، تعيش وتنتج وتعمل وتبدع، وإن كانت مختلفة. لذا، فإن الاندفاع الكبير الذي عرفته مؤسسات الجالية، في بداية التحولات الديمقراطية في أوروبا الشرقية، تراجع إلى درجة كبيرة، نتيجة نقل أمراض القيادة الشرقية، وعشق المخترة والرئاسة إلى هناك. وهذا في وقت نجد فيه الجاليات الأجنبية والجاليات اليهودية، على صغرها، فاعلة جداً، ولها أيدٍ قادرة على الوصول إلى مراكز القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، على حدّ سواء.
مجزرة غزّة.. امتحان الجاليات العربية
وقد لوحظ أنّ الجاليات العربية لم تتحرك في دول أوروبا الشرقية، مع بداية العدوان على غزّة، وبعد ضغوط من فئات عديدة من أبناء الجاليات العربية، خرجت مظاهرات في شوارع صوفيا وبوخارست وبلغراد ووارسو، وعواصم ومدن كبرى أخرى، للتعبير عن رفض عمليات القتل والذبح لأبنائنا وشعبنا في قطاع غزّة، وهناك فئات ترفض الظهور في مظاهراتٍ، قد تخالف الرأي العام للحكومات الأوروبية، للحفاظ على مراكزها، وتجنب عدم التعرض لمضايقات، أو على الأقل، خسارة الفرص والتهميش المتعمّد، إذا كانت تمتلك مناصب حسّاسة، لكنّها فئات قليلة ومحدودة للغاية.
الأمرّ هو تغييب الأجيال الصاعدة، وعدم فهمها جذور مأساة القضية الفلسطينية وتبعات الحروب التي تشهدها المنطقة، إثر اندلاع الربيع العربي. وبإعلان الهدنة، وتوقف القصف على غزة، من المتوقع أن ينزوي أبناء الجاليات العربية، للعودة إلى مشاغلهم وحيواتهم اليومية، وهذا طبيعيّ، إذ ليس من المعقول البقاء ليل نهار في الشوارع، للتظاهر والاعتصام، لكن هذا يدلل على انعدام وجود استراتيجية طويلة الأمد، للتوصل إلى مراكز القرار، وإلى قيادات المؤسسات المدنية والحكومية أيضاً، لتشكيل "لوبي" عربي ضاغط على المستوى البعيد، يصبح بمثابة جسرٍ بين هذه الحكومات والدول العربية، عدا التمثيل الدبلوماسي في تلك الدول.
آفاق دور الجاليات العربية في أوروبا
وقد تمكنت أجيال ولدت في أوروبا من أصول عربية من تبوّء مناصب رفيعة وراقية في وسائل الإعلام الوطنية والخاصة، وفي مجال العمل وقطاعاته المختلفة، وفي المؤسسات الحكومية. لكنّهم، للأسف، لا يملكون من الشرق، أحياناً، سوى أسمائهم. ومع الوقت، ينخرط هؤلاء في حمّى الحياة اليومية، وينقطعون كلياً عن جذورهم. وهنا، يأتي دور الجاليات لتعريفهم بأصولهم، وتسهيل اندماجهم في المجتمعات الأوروبية، من دون ذوبانهم فيها بالكامل، بدءاً بتعلّم العربية والقيام بزيارات دورية لأقربائهم وأهلهم في الأقطار العربية، وليصبحوا كذلك جسراً للتواصل بحكم انخراطهم المهنيّ في المجتمعات الأوروبية.
يمكن التفكير بإيجاد آليات لخروج الجاليات العربية من حالة الانكفاء والانغلاق التي تعيشها، وتجنّب الوقوع في كمّاشة "الغيتو"، حيث تتوقع فئة الشباب القادم إلى أوروبا في الأسواق العربية، وأماكن وجود العرب تحديداً، سواء كان الوافدون لاجئين، أو من الباحثين عن فرص عمل في هذه الدول، بعدما أرهقتهم البطالة في العالم العربي.
قيادات الجاليات العربية قادرة كذلك على تخفيف معاناة اللاجئين الذين ذاقوا الأمرين، لكي يصلوا إلى أوروبا، معتقدين أنّ هذه القارة، الغارقة بمشكلاتها الخاصة، ستستقبلهم بالأحضان، وتضمن لهم المأوى والمأكل، وتؤمّن لهم فرص العمل. شاهدت الكثير من معاناة اللاجئين في مراكز اللجوء المؤقتة، وكثيرون منهم يتمنون اللحظة التي يسمح لهم فيها بالعودة إلى مواطنهم، على الرغم من استمرار حمم القذائف وبراميل الموت. ويمكن أن يكون دور الجاليات أكثر فاعلية بتأمين محامين وأطباء وحقوقيين ومترجمين، يقدمون النصائح لتجنب المخالفات القانونية، ودراسة الخيارات المطروحة أمام اللاجئين الشرعيين وغير الشرعيين.
الجاليات والحكومات العربية
كانت هناك مبادرة طرحتها جاليات عربية، بهدف إيجاد صيغة ما لربط الجاليات العربية في أوروبا مع مؤسسة جامعة الدول العربية على الأقل، لتكون عوناً للديبلوماسية العربية في أوروبا، لكن القصور متبادل، ورئاسة الجاليات تعاني معضلة إثبات شرعيتها، وعدم الاستعداد للتنازل عن المناصب الوهمية. كما أنه ليس لدى جامعة الدول العربية الآليات المستعدة للتعامل مع ممثلين عن الجاليات العربية في القارة الأوروبية، على الرغم من محاولة استثمار دور هذه الجاليات في عواصم الدول الأوروبية لصالح قوى سياسية إقليمية، ما أدّى إلى تشتيت الأهداف المدنية المعلنة، والفتّ في عضد هذه الجاليات، واقتصرت المؤتمرات على السفر والحديث المطوّل والمكوث في الفنادق والعودة من دون تحقيق شيء في الواقع. لذا، فإنّ الفجوة بين الجذور والفروع كبيرة للغاية، وتحتاج إلى جهود مضنية وإرادة حقيقية، للتمكن من تقليصها، علماً أنّ حجم اللجوء ووتائره من الشرق إلى الغرب يتزايدان باستمرار، وليس من المتوقع حدوث موجات لجوء معاكسة، ضمن الأوضاع المأساوية والأزمات التي يعاني منها العالم العربي.