أثر التغريب.. من بريشت إلى مواقع التواصل الاجتماعي

21 اغسطس 2019
بسيم الريس/ سورية
+ الخط -

رغبةً في دفع الناس إلى التفكير في نِزاعاتهم وما تملأ أنفسَهم به من أحقاد وشرور، وفي هيكل المجتمع القائم على الطبقية والتوزيع غير العادل للثروات، بدأ اثنان من أهم روّاد المسرح الألماني؛ إرفين بيسكاتور وبرتولد بريشت، منذ عشرينيات القرن الماضي، كلٌّ بأدواته وأساليبه الخاصة، تجريبَ أشكال جديدة في الكتابة والإخراج المسرحيَّين، تبتعد عن قوالب المسرح الدرامي الذي تعود بداياته إلى أرسطو، وهو نمط ساد في عصر النهضة في أوروبا وصار يشكّل جزءاً من حياة الطبقة الأرستقراطية، وكان هدفه تسلية جمهوره ومنحه - عند حل العقدة الدرامية - ما كان يُعرف بالتطهير النفسي، فيعود المتفرّجون إلى بيوتهم مرتاحي النفس.

أتت هذه التجارب المضادّة بما سُمّي بالمسرح الملحمي أو الدياليكتي والذي أشبعه بريشت في ما بعد - إلى جانب التطبيق العملي - تنظيراً وتأصيلاً، واختار ما أسماه "أثر التغريب" (Verfremmdungseffekt) واحداً من أهم عناصره، فهذا الأثر هو ما يميّز مسرحه بشكل حاسم عن المسرح الدرامي.

بحسب بريشت، فإن التغريب يتضمّن أي فعل يُذكِّر المشاهد بأنَّ ما يُعرض أمامه مجرّد مسرحية، وأن أحداثها قابلة للنقاش والتغيير، وهي موضع بحث وإعادة نظر، وليست سُنناً كونيةً وقدراً حتمياً. بهذا يكسر بريشت عنصر "الإيهام" الذي يعدّه كتّاب المسرح الدرامي أسمى ما يمكن أن تبلغه مسرحياتهم. لذلك، كان يدع ممثّليه يخرجون فجأة من شخصياتهم، ويوجّهون حديثهم للجمهور، ويطرحون عليهم مثلاً أسئلة حول أخلاقيةِ ما تقوم به الشخصيات التي يمثّلونها، أو الحلول الممكنة للمشكلات المطروحة.

كان بريشت أيضاً يمنع الممثلين من الاندماج التامَّ مع الشخصيات التي يؤدّونها، ويطلب الاكتفاءَ بعرض الأحداث ببرود وقلّة انفعال، وقد اعتبر مرّةً بكاء الممثلة هيليني فايغل على الخشبة خطأ يجب اجتنابه في العروض الأخرى.

من أصناف التغريب الأخرى عند بريشت عرضُه مشاهد يومية اعتيادية على خشبة المسرح، فالمشاهد حين يصادفها أو يعيشها في حياته اليومية تتبدى له اعتياديةً وجزءاً من تكوين العالم وتبعاً لسننه المضبوطة، أما في لحظة إعادة عرضها على الخشبة، فتتكشَّف غرابتها وتُومض الأفكار حولها في عقل المشاهد كأنما يراها لأول مرة.

على غرار المسرح الملحمي، وبعد قرن تقريباً من بدء التنظير له وممارسته، تُقدِّم لنا منصةٌ أخرى تغريباً جديداً لنزاعاتنا السياسية والفكرية، وتراكيبِ حياتنا الاجتماعية، من دون أن يسبق ذلك أيُّ خطة نظرية، أو تكون ضمن أجندة من أطلقها، بل إنها انبثقت من كونها أداةً عصرية للاتصال وكسر الحواجز.

لقد تحدّث بريشت في تنظيراته عن كسر الجدار الرابع، ذلك الجدار الوهمي الذي يكمل انغلاق صندوق المسرح مع جدرانه الثلاثة المادية، ويفصل عالمه الخيالي عن عالم الحقيقة الذي يوجد فيه جمهوره، وهكذا تفعل منصتنا الحديثة، منصة شبكات التواصل الاجتماعي، بإتاحة الاتصال المباشر بين أبطال الحكاية ومتابعيهم، وبعرضها لحظاتِ خروجهم عن أدوارهم، وخلعِهم أزياء العرض، وإتاحتها الفرصة للجمهور بالتعقيب والسؤال وتبادل الحوار، بينما الحكايةُ تُعرض أمامهم وربما يستمع أبطالها لما يتداولونه.

أول التفاتة لإمكانية تطويع الوسائط المُستحدثة، وتعميم أثر التغريب خارج المسرح، أتت من بريشت نفسه، في كلمته "البث اللاسلكي كجهاز اتصال" في عام 1930، حين طرح أفكاراً مماثلة لتصوّره عن المسرح الدياليكتي، فدعا إلى عدم اقتصار استخدام الراديو على التسلية والترفيه، بل أن تُستغل قدراته الهائلة في اختراق الآفاق في فتح المجال لحوار حي بين الفئات المختلفة والاستماع لشكاويهم.

يُضاف إلى ذلك أثر التغريب الأخير، تغريب اليومي والمعتاد، حين يخرج عن اعتياديته ويُعرض في سياق آخر، هذا التغريب الذي من جانب يتكسب به آلاف من صناع المحتوى، بإنتاجهم فيديوهات وصوراً لا يُمل، ليس فقط من إعادة مشاهدتها، بل ومن إعادة إنتاجها مرة بعد الأخرى، وبعناوينها المتشابهة: شكلك/ شكلي/ شكل فلان في مكان كذا أو ساعة كذا.

ربما يناسب السياق هنا أن نذكر أن كلمة "komisch" في الألمانية، مشتقة من الكوميديا وتعبّر عن العروض والمشاهد الكوميدية في المسرح والسينما، لكنها تعني في اللغة العامية: غريب.

جانب آخر في عملية التغريب هذه، هي إعادة نشر الأخبار، وتصريحات الساسة ورجال الدين. من أمثلة ذلك فتوى بتحريم استخدام تطبيق "فيس آب" كونه "تغييراً في خلق الله"، وقد أطلقها مفتي الخليل، محمد ماهر مسودي. هذه الفتوى - ككثير من شبيهاتها - تم تداولها كما هي من مواقع إخبارية أو صفحات من دون إضافات أو تحليل، تَتْركها للجمهور ينهشها بتعليقاته الساخرة. لم تكن الردود ممكنة في مسجد والشيخ يصدر خطبته أو درسه في محفل من الناس.

بعيداً عن منصة شبكات التواصل الاجتماعي يلتقي المرءُ الشيوخَ مرة واحدة في الأسبوع، ولا يراهم إلا ممارسين أدوارهم، على فيسبوك يعود الشيخ واحداً من الناس، يخلع عباءته وعمامته وينشر صوراً مع أطفاله وأصدقائه، يعرض نشاطات أيامه، ثم حين تأتي ساعة الدرس يلبس دور الشيخ من جديد ويُصدر فتوى.

من الأمثلة الأخرى تداوُل الأحداث المحلية كالنزاعات العائلية، أو تصريحات المارة وسؤالهم عن آرائهم في قضايا اجتماعية جدلية، مثل رأيهم في عمل المرأة، أو الزواج المبكر. بثُّ هذا النوع من المقابلات ثم تفاعل الناس معها، هو من أظهر آثار التغريب، فهو تغريب رأي الناس عن الناس، قد يُمرِّر المرء لجليسه آراءَ قد يراها رجعيةً وخاطئة، لأنه من جهة لا يريد تحويل المجلس إلى حلقة نقاش، ومن ناحية أخرى لأنه لا يشعر في داخله بخطورة هذه الآراء، لكن عند إعادة بثها في فيديو لمدة أربع دقائق يَعرض اتفاق أكثر من خمسين شخصاً عليها، سيشعر بثقلها الحقيقي في الرأي العام وتكوين المجتمع. هذا الأسلوب في المقابلات تلجأ إليه كثير من الشبكات، في الغالب لأهداف ربحية، لكنها أداة شديدة الفعالية في طرح القضايا.

إن الانتباه لفكرة التغريب وأثرها كما أراد لها بريشت أن تكون، ثم ملاحظة القدرة على تطويعها وتطبيقها على منصة تصل إلى كل أطياف المجتمع، وتقدم - على عكس المسرح - جمهوراً واسعاً من دون حواجز الزمان والمكان، من شأنه لفت النظر إلى خطوة خطيرة الشأن في إعادة صياغة المفاهيم وطرح الجدليات ولفت نظر الناس إلى قضاياهم ومشكلاتهم بإعادة عرضها بصورة أكثر وضوحاً وشفافية.

سيهيّئ ذلك لأصحاب الطموح والأفكار النيرة طريقاً جديداً في عرض آرائهم الناقدة، فبدل كتابة مئات الصفحات في قضايا مثل تحجّر العادات والتقاليد، وموقع المرأة في المجتمع، وقضايا الشباب ونظام التعليم، يمكن اللجوء إلى إعادة عرضها، أي تغريبها، كما هي؛ حيث توقع الدهشة "Staunen" في نفوس مشاهديها، كأنما تصادفهم لأول مرة، ليطرحوا الأسئلة ويبدؤوا رحلة البحث عن إجابات وبدائل.

هذا الأسلوب في الطرح، قد يكون سبيلاً للابتعاد عن صراع الأيديولوجيات، وقد يُتيح الفرصة لتصوُّرات فتيّة من خارج صندوق الحلول الجاهزة، لعل هذه كانت نقطة انطلاق شباب التغيير في الأقطار العربية المختلفة الذين فشلت محاولة قامعيهم لتصنيفهم في دائرة معينة، أو حصرهم في خانة واحدة، لأنهم في حقيقة الأمر لم يخرجوا نتيجة تعبئة أيديولوجية ممنهجة، بل انطلاقاً من وعي غير مسبوق بتفاصيل حياتهم اليومية، ورغبة خاصة في نفس كل فرد منهم بالتغيير والتقدم.

المساهمون