عادت إسرائيل مجدداً لتفعيل الاغتيالات في قطاع غزة، بعدما أقدمت على اغتيال القيادي العسكري في حركة الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا فجر يوم الثلاثاء 12 نوفمبر 2019 في منزله بحيّ الشجاعية، ومحاولة اغتيال عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد في دمشق أكرم العجوري. هذه ليست المرة الأولى التي تنفذ فيها إسرائيل اغتيالات - سرية وعلنية - ضد قيادات الفصائل الفلسطينية، بل قد يصعُب حصر الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل منذ سبعينيات القرن الماضي، وكانت تستهدف القضاء على المجموعات الفدائية. ومن أجل ذلك، وبإيعاز من أرييل شاورن، وقد كان قائد المنطقة الجنوبية آنذاك، شُكِّلَت وحدة خاصة مطلع السبعينيات لتنفيذ الاغتيالات ضد قيادات الفصائل الفلسطينية، سُميت وحدة "ريمونيم"، وكان يقودها مائير داغان، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لجهاز الموساد. وكانت أبرز عمليات الاغتيال في هذه الفترة اغتيال المسؤول العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وديع حداد، الذي توفي في ألمانيا الشرقية عام 1978 بواسطة تسميم معجون أسنانه.
وعندما اندلعت الانتفاضة الأولى عام 1987 شرعت إسرائيل في اغتيال من سمّتهم "المطلوبين"، ونفذت نحو 195 عملية اغتيال، وكانت آنذاك تستهدف القيادات العسكرية من دون المساس بالقيادات السياسية للفصائل. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، حدث تحوّل بارز في الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات الفلسطينية، إذ باتت إسرائيل تغتال القيادات السياسية والعسكرية على حد سواء، وما بين عامي 2000 و2006، نفذت إسرائيل فقط داخل قطاع غزة ما يزيد على 300 عملية اغتيال، بل يمكن القول إنه بحلول عام 2006 كانت إسرائيل قد اغتالت أغلب القيادات السياسية والعسكرية للفصائل الفلسطينية، بمن فيهم الأمناء العامون للفصائل بمختلف توجهاتها الوطنية واليسارية والإسلامية.
يصف يوسي ميلمان، الكاتب الإسرائيلي في مقال له بصحيفة هأرتس في 24/ مارس/ 2004 سياسة الاغتيالات الإسرائيلية في تلك الفترة ويقول: "الاغتيالات ليست وسيلة جديدة بيد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، إلا أنها كانت خلال مدة طويلة، حتى عقد السبعينيات على الأقل، وسيلة أخيرة ولا تستخدم إلا بتركيز منخفض وبطريقة مدروسة. السبب أن الجهاز الاستخباري لا يريد أن يصبح مثل المافيا أو شركة للقتل المأجور، وثانياً لأن الاغتيال سيف ذو حدين. الأمر الأبرز في السنوات الماضية، أن كل الفرضيات الخاصة باستخدام الاغتيالات تحطمت عملياً، من اعتبار السلاح الملجأ الأخير، إلى أن أصبحت التصفية خياراً هو الأقرب في متناول اليد. الغموض الذي لفّ عمليات الاغتيال السابقة وفرض في الواقع ندرة وإحكاماً له قد تبدد في اللحظة التي أصبحت التصفية فيه عملاً عادياً".
بدت الاغتيالات الإسرائيلية لقادة الفصائل عملاً عادياً عندما اغتالت إسرائيل في انتفاضة الأقصى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى، في 27/ أغسطس/ 2001 بقصف مكتبه في وسط مدينة رام الله. ثم اغتالت مؤسس "حماس" الشيخ أحمد ياسين في 22/ مارس/ 2004.
ويلاحظ هنا أمران: الأول، أن إسرائيل نفذت عمليات الاغتيال علناً، وبالقصف الجوي، مستخدمة أحدث ما لديها من طائرات. الأمر الثاني، أنها اغتالت أعلى قيادة سياسية في فصيلين رئيسيين في الحركة الوطنية الفلسطينية، هما الجبهة الشعبية وحركة حماس، وقد كانت إسرائيل سابقاً تخرج لعمليات الاغتيال سراً، ولا تعلن قيامها بالاغتيالات، ثم كانت تُغلّب القيادات العسكرية على القيادات السياسية. لكن إقدامها على اغتيال القيادات السياسية عموماً، ورجل "قعيد" كالشيخ أحمد ياسين، يعني أن الاغتيال سلوك وخيار إسرائيلي حاضر دوماً وغير مرتبط بأسباب، بقدر ارتباطه بأهداف محددة ومعدة سلفاً.
وبالتالي تستهدف إسرائيل من هذه الاغتيالات تحقيق الأهداف على المديين: القصير، وهو هنا تفعيل الردع وتمرير رسالة مفادها أن لا شيء يوقفها عن القتل. والثاني طويل الأمد، وهو إحداث تغيير في المنظومة القيادية للفصائل، أي تصبح القرارات داخل الفصيل أمام متغير قيادي جديد، وهو متغير حتماً سيؤثر بطبيعة القرارات، ولا سيما إذا كان الاغتيال قد استهدف الأمين العام للفصيل.
تجاوز كل من الجبهة الشعبية وحركة حماس هذا المتغير القيادي وغياب رأس القيادة السياسية، بل ذهبت الجبهة الشعبية بعيداً عندما ردّت على اغتيال أمينها العام خلال أربعين يوماً، واغتالت في 17 أكتوبر2001 وزير السياحة الإسرائيلي رحبئام زئيفي بكاتم صوت في فندق حياة ريجنسي. أما حركة حماس، فقد أكملت مسيرتها عقب اغتيال الشيخ أحمد ياسين، واستطاعت رغم غياب القيادات التاريخية السياسية والعسكرية في الحركة، أن تحقق الفوز بالأغلبية في الانتخابات التشريعية في عام 2006. وسابقاً، تجاوزت حركة الجهاد الإسلامي اغتيال أمينها العام فتحي الشقاقي، الذي اغتيل في أكتوبر عام 1995 في جزيرة مالطا.
استطاعت الفصائل الفلسطينية تجاوز إشكالية الاغتيالات لقادتها، إذا كان المقصود هنا عدم حدوث فراغ قيادي في التنظيم أو قدرة التنظيم على الاستمرارية والتماسك، وهذا أمر تمكن ملاحظته في المدى القريب. لكن على المدى البعيد، أفضت الاغتيالات الإسرائيلية لقادة الفصائل الفلسطينية إلى مجموعة تحديات، أهمها غياب الشخصيات التاريخية والقيادات ذات الكاريزما. بل إن واحداً من أهم التداعيات التي بدت عقب اغتيال هذه القيادات وغيابها، حدوث الانقسام الفلسطيني واستمراره لما يزيد على عقد من الزمن. فالخلافات السياسية بين الفصائل وقادتها كانت حاضرة دوماً، لكنها لم تُفضِ قَطّ إلى الانقسام، وقد كان وجود هذه القيادات التاريخية صمام أمان. لكن التبعات تبقى نسبية هنا. فاغتيال ياسر عرفات، مثلاً، بالنسبة إلى حركة فتح، لم تكن تبعاته كاغتيال أبو علي مصطفى بالنسبة إلى الجبهة الشعبية، أو اغتيال الشيخ أحمد ياسين بالنسبة إلى حركة حماس، أو اغتيال الشقاقي بالنسبة إلى حركة الجهاد.
إن واحداً من أهم الافتراضات التي تنطلق منها إسرائيل عند تنفيذ الاغتيالات، أنها تعلم بالنسق العقيدي لخريطة القيادات المتوقعة أن تحل محل القيادات التي اغتيلَت، وتنطلق من فرضية أن القيادات الجديدة التي تتولى القيادة لا تكون في الغالب بمستوى القيادات التي تُغتال من حيث السمات القيادية والأداء، بل ربما والإجماع داخل أروقة التنظيم، وداخل الحالة الفلسطينية على عمومها، إذ لا يمكن القول والجزم بأن غياب عرفات والشيخ ياسين وأبو علي مصطفى كحضورهم، وأن غيابهم، وإن جرى تجاوزه تنظيماً وعلى المدى القريب كما لو أنهم لا يزالون حاضرين.
ولكن، تذهب بعض النتائج والمعطيات الحاصلة عقب عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل ضد قيادات الفصائل الفلسطينية إلى دحض الافتراضات التي تقول إن آثار الاغتيالات ستبدو جلية على أداء الفصائل في المديين القريب والبعيد، ويتجلى ذلك في مجموعة معطيات أولها يتعلق بالتراتبية التنظيمية للقيادات داخل الفصائل، ويُستبعد أن تكون هذه الفصائل قد أسقطت من هياكلها التنظيمية وحساباتها العملية وصناعة قراراتها سيناريو إقدام إسرائيل على اغتيال قياداتها من الصف الأول، بل إننا نظن أن جُل الفصائل الفلسطينية تستحضر مثل هذا السيناريو وتضع خططاً بديلة وقيادات ظل للتعامل مع الاغتيالات.
معطى آخر، أن أداء الفصائل لم يتأثر ولم يتراجع عقب اغتيال قادتها، واستطاعت تجاوز التداعيات. ولم تنجح إسرائيل في هذه الاستراتيجية بدليل مواصلة عمليات المقاومة واستمرارها. فاغتيال الشيخ أحمد ياسين، مثلاً، لم يمنع العمل العسكري النوعي لكتائب القسام، التي استطاعت في مايو 2006 تنفيذ عملية الوهم المتبدد، وأسرت الجندي جلعاد شاليط، واحتفظت به لأكثر من خمس سنوات. بل إن اغتيال قادتها العسكريين التاريخيين والمؤسسين مثلاً، لم يُفضِ إلى صراع داخل هياكل الحركة، كما كانت تريد إسرائيل وتهدف، وهذا الأمر تجاوزته كل الفصائل الفلسطينية. بل إن هدف الردع الذي كانت تريد إسرائيل تحقيقه من خلال تنفيذ الاغتيالات على هذه المستويات، لم يتحقق هو الآخر، بدليل استمرار العمليات النوعية للمقاومة الفلسطينية. وبالتالي، إن الاغتيالات لم تغب عن الممارسات الإسرائيلية، وهي ليست جديدة أو طارئة على الحركة الوطنية الفلسطينية وفصائلها، بل كانت المقاومة الفلسطينية، وما زالت، تدرك جيداً هذه القضية، ولم تفاجأ ولم يتراجع أداؤها.
وعلى الرغم من حجم الاغتيالات والاعتقالات والملاحقات التي جرت ضد الفصائل الفلسطينية، إلا أن بنيتها التنظيمية بقيت متماسكة، ولم تؤثر الاغتيالات بالأداء العسكري والسياسي والاجتماعي، ما يعني أنه بات لدى هذه الفصائل مرونة في بنيتها التنظيمية، وأنها قادرة على الاستيعاب والتكيف. هذا على المستوى التنظيمي والسياسي.
أما على المستوى العسكري، فإن الاغتيالات لم تؤثر بالمقاومة، ولم تُضعف بنيتها. وإذا اغتيل قائد، فإن قائداً جديداً يحل مكانه ويكمل مسيرته العسكرية. بل سنجد أن اغتيال القادة العسكريين للفصائل يُعد دافعاً إلى تطوير العمل العسكري المقاوم. فعندما اغتالت إسرائيل الشهيد عدنان الغول، أحد أبرز قادة كتائب القسام في 22 أكتوبر 2004، ردت كتائب القسام بإطلاق اسم "غول" على بندقية قنص من عيار 14.5 وذات مدى قاتل يصل إلى 2 كيلومتر، وقالت إن البندقية من ضمن الصناعات القسامية المحلية.
وعندما اغتالت إسرائيل الشهيد إبراهيم المقادمة، أحد أبرز مفكري وقيادات حركة حماس في 8 مارس 2003 بقصف سيارته بطائرة أباتشي، ردت كتائب القسام في عام 2012 بقصف تل أبيب للمرة الأولى بصاروخ محلي الصنع أطلقت عليه اسم "M-75" ويصل مداه إلى 75 كيلومتراً، وكانت التسمية تيمناً بالشهيد إبراهيم المقادمة. وأطلقت "R160" على أحد صواريخها تيمناً بالشهيد عبد العزيز الرنتيسي الذي اغتالته إسرائيل في 16 أبريل 2004، وكان قد خلف الشيخ أحمد ياسين في قيادة حركة حماس. وبالتالي، يتضح هنا أن حتى هدف الردع الذي أرادته إسرائيل لم يتحقق.
وعندما اندلعت الانتفاضة الأولى عام 1987 شرعت إسرائيل في اغتيال من سمّتهم "المطلوبين"، ونفذت نحو 195 عملية اغتيال، وكانت آنذاك تستهدف القيادات العسكرية من دون المساس بالقيادات السياسية للفصائل. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، حدث تحوّل بارز في الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات الفلسطينية، إذ باتت إسرائيل تغتال القيادات السياسية والعسكرية على حد سواء، وما بين عامي 2000 و2006، نفذت إسرائيل فقط داخل قطاع غزة ما يزيد على 300 عملية اغتيال، بل يمكن القول إنه بحلول عام 2006 كانت إسرائيل قد اغتالت أغلب القيادات السياسية والعسكرية للفصائل الفلسطينية، بمن فيهم الأمناء العامون للفصائل بمختلف توجهاتها الوطنية واليسارية والإسلامية.
يصف يوسي ميلمان، الكاتب الإسرائيلي في مقال له بصحيفة هأرتس في 24/ مارس/ 2004 سياسة الاغتيالات الإسرائيلية في تلك الفترة ويقول: "الاغتيالات ليست وسيلة جديدة بيد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، إلا أنها كانت خلال مدة طويلة، حتى عقد السبعينيات على الأقل، وسيلة أخيرة ولا تستخدم إلا بتركيز منخفض وبطريقة مدروسة. السبب أن الجهاز الاستخباري لا يريد أن يصبح مثل المافيا أو شركة للقتل المأجور، وثانياً لأن الاغتيال سيف ذو حدين. الأمر الأبرز في السنوات الماضية، أن كل الفرضيات الخاصة باستخدام الاغتيالات تحطمت عملياً، من اعتبار السلاح الملجأ الأخير، إلى أن أصبحت التصفية خياراً هو الأقرب في متناول اليد. الغموض الذي لفّ عمليات الاغتيال السابقة وفرض في الواقع ندرة وإحكاماً له قد تبدد في اللحظة التي أصبحت التصفية فيه عملاً عادياً".
بدت الاغتيالات الإسرائيلية لقادة الفصائل عملاً عادياً عندما اغتالت إسرائيل في انتفاضة الأقصى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى، في 27/ أغسطس/ 2001 بقصف مكتبه في وسط مدينة رام الله. ثم اغتالت مؤسس "حماس" الشيخ أحمد ياسين في 22/ مارس/ 2004.
ويلاحظ هنا أمران: الأول، أن إسرائيل نفذت عمليات الاغتيال علناً، وبالقصف الجوي، مستخدمة أحدث ما لديها من طائرات. الأمر الثاني، أنها اغتالت أعلى قيادة سياسية في فصيلين رئيسيين في الحركة الوطنية الفلسطينية، هما الجبهة الشعبية وحركة حماس، وقد كانت إسرائيل سابقاً تخرج لعمليات الاغتيال سراً، ولا تعلن قيامها بالاغتيالات، ثم كانت تُغلّب القيادات العسكرية على القيادات السياسية. لكن إقدامها على اغتيال القيادات السياسية عموماً، ورجل "قعيد" كالشيخ أحمد ياسين، يعني أن الاغتيال سلوك وخيار إسرائيلي حاضر دوماً وغير مرتبط بأسباب، بقدر ارتباطه بأهداف محددة ومعدة سلفاً.
وبالتالي تستهدف إسرائيل من هذه الاغتيالات تحقيق الأهداف على المديين: القصير، وهو هنا تفعيل الردع وتمرير رسالة مفادها أن لا شيء يوقفها عن القتل. والثاني طويل الأمد، وهو إحداث تغيير في المنظومة القيادية للفصائل، أي تصبح القرارات داخل الفصيل أمام متغير قيادي جديد، وهو متغير حتماً سيؤثر بطبيعة القرارات، ولا سيما إذا كان الاغتيال قد استهدف الأمين العام للفصيل.
تجاوز كل من الجبهة الشعبية وحركة حماس هذا المتغير القيادي وغياب رأس القيادة السياسية، بل ذهبت الجبهة الشعبية بعيداً عندما ردّت على اغتيال أمينها العام خلال أربعين يوماً، واغتالت في 17 أكتوبر2001 وزير السياحة الإسرائيلي رحبئام زئيفي بكاتم صوت في فندق حياة ريجنسي. أما حركة حماس، فقد أكملت مسيرتها عقب اغتيال الشيخ أحمد ياسين، واستطاعت رغم غياب القيادات التاريخية السياسية والعسكرية في الحركة، أن تحقق الفوز بالأغلبية في الانتخابات التشريعية في عام 2006. وسابقاً، تجاوزت حركة الجهاد الإسلامي اغتيال أمينها العام فتحي الشقاقي، الذي اغتيل في أكتوبر عام 1995 في جزيرة مالطا.
استطاعت الفصائل الفلسطينية تجاوز إشكالية الاغتيالات لقادتها، إذا كان المقصود هنا عدم حدوث فراغ قيادي في التنظيم أو قدرة التنظيم على الاستمرارية والتماسك، وهذا أمر تمكن ملاحظته في المدى القريب. لكن على المدى البعيد، أفضت الاغتيالات الإسرائيلية لقادة الفصائل الفلسطينية إلى مجموعة تحديات، أهمها غياب الشخصيات التاريخية والقيادات ذات الكاريزما. بل إن واحداً من أهم التداعيات التي بدت عقب اغتيال هذه القيادات وغيابها، حدوث الانقسام الفلسطيني واستمراره لما يزيد على عقد من الزمن. فالخلافات السياسية بين الفصائل وقادتها كانت حاضرة دوماً، لكنها لم تُفضِ قَطّ إلى الانقسام، وقد كان وجود هذه القيادات التاريخية صمام أمان. لكن التبعات تبقى نسبية هنا. فاغتيال ياسر عرفات، مثلاً، بالنسبة إلى حركة فتح، لم تكن تبعاته كاغتيال أبو علي مصطفى بالنسبة إلى الجبهة الشعبية، أو اغتيال الشيخ أحمد ياسين بالنسبة إلى حركة حماس، أو اغتيال الشقاقي بالنسبة إلى حركة الجهاد.
إن واحداً من أهم الافتراضات التي تنطلق منها إسرائيل عند تنفيذ الاغتيالات، أنها تعلم بالنسق العقيدي لخريطة القيادات المتوقعة أن تحل محل القيادات التي اغتيلَت، وتنطلق من فرضية أن القيادات الجديدة التي تتولى القيادة لا تكون في الغالب بمستوى القيادات التي تُغتال من حيث السمات القيادية والأداء، بل ربما والإجماع داخل أروقة التنظيم، وداخل الحالة الفلسطينية على عمومها، إذ لا يمكن القول والجزم بأن غياب عرفات والشيخ ياسين وأبو علي مصطفى كحضورهم، وأن غيابهم، وإن جرى تجاوزه تنظيماً وعلى المدى القريب كما لو أنهم لا يزالون حاضرين.
ولكن، تذهب بعض النتائج والمعطيات الحاصلة عقب عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل ضد قيادات الفصائل الفلسطينية إلى دحض الافتراضات التي تقول إن آثار الاغتيالات ستبدو جلية على أداء الفصائل في المديين القريب والبعيد، ويتجلى ذلك في مجموعة معطيات أولها يتعلق بالتراتبية التنظيمية للقيادات داخل الفصائل، ويُستبعد أن تكون هذه الفصائل قد أسقطت من هياكلها التنظيمية وحساباتها العملية وصناعة قراراتها سيناريو إقدام إسرائيل على اغتيال قياداتها من الصف الأول، بل إننا نظن أن جُل الفصائل الفلسطينية تستحضر مثل هذا السيناريو وتضع خططاً بديلة وقيادات ظل للتعامل مع الاغتيالات.
معطى آخر، أن أداء الفصائل لم يتأثر ولم يتراجع عقب اغتيال قادتها، واستطاعت تجاوز التداعيات. ولم تنجح إسرائيل في هذه الاستراتيجية بدليل مواصلة عمليات المقاومة واستمرارها. فاغتيال الشيخ أحمد ياسين، مثلاً، لم يمنع العمل العسكري النوعي لكتائب القسام، التي استطاعت في مايو 2006 تنفيذ عملية الوهم المتبدد، وأسرت الجندي جلعاد شاليط، واحتفظت به لأكثر من خمس سنوات. بل إن اغتيال قادتها العسكريين التاريخيين والمؤسسين مثلاً، لم يُفضِ إلى صراع داخل هياكل الحركة، كما كانت تريد إسرائيل وتهدف، وهذا الأمر تجاوزته كل الفصائل الفلسطينية. بل إن هدف الردع الذي كانت تريد إسرائيل تحقيقه من خلال تنفيذ الاغتيالات على هذه المستويات، لم يتحقق هو الآخر، بدليل استمرار العمليات النوعية للمقاومة الفلسطينية. وبالتالي، إن الاغتيالات لم تغب عن الممارسات الإسرائيلية، وهي ليست جديدة أو طارئة على الحركة الوطنية الفلسطينية وفصائلها، بل كانت المقاومة الفلسطينية، وما زالت، تدرك جيداً هذه القضية، ولم تفاجأ ولم يتراجع أداؤها.
وعلى الرغم من حجم الاغتيالات والاعتقالات والملاحقات التي جرت ضد الفصائل الفلسطينية، إلا أن بنيتها التنظيمية بقيت متماسكة، ولم تؤثر الاغتيالات بالأداء العسكري والسياسي والاجتماعي، ما يعني أنه بات لدى هذه الفصائل مرونة في بنيتها التنظيمية، وأنها قادرة على الاستيعاب والتكيف. هذا على المستوى التنظيمي والسياسي.
أما على المستوى العسكري، فإن الاغتيالات لم تؤثر بالمقاومة، ولم تُضعف بنيتها. وإذا اغتيل قائد، فإن قائداً جديداً يحل مكانه ويكمل مسيرته العسكرية. بل سنجد أن اغتيال القادة العسكريين للفصائل يُعد دافعاً إلى تطوير العمل العسكري المقاوم. فعندما اغتالت إسرائيل الشهيد عدنان الغول، أحد أبرز قادة كتائب القسام في 22 أكتوبر 2004، ردت كتائب القسام بإطلاق اسم "غول" على بندقية قنص من عيار 14.5 وذات مدى قاتل يصل إلى 2 كيلومتر، وقالت إن البندقية من ضمن الصناعات القسامية المحلية.
وعندما اغتالت إسرائيل الشهيد إبراهيم المقادمة، أحد أبرز مفكري وقيادات حركة حماس في 8 مارس 2003 بقصف سيارته بطائرة أباتشي، ردت كتائب القسام في عام 2012 بقصف تل أبيب للمرة الأولى بصاروخ محلي الصنع أطلقت عليه اسم "M-75" ويصل مداه إلى 75 كيلومتراً، وكانت التسمية تيمناً بالشهيد إبراهيم المقادمة. وأطلقت "R160" على أحد صواريخها تيمناً بالشهيد عبد العزيز الرنتيسي الذي اغتالته إسرائيل في 16 أبريل 2004، وكان قد خلف الشيخ أحمد ياسين في قيادة حركة حماس. وبالتالي، يتضح هنا أن حتى هدف الردع الذي أرادته إسرائيل لم يتحقق.