أبو مازن
على مدى سنوت حكمه، رئيساً، أو رئيس وزراء، بل طوال فترة تبوئه عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح، لم يقل محمود عباس جملة واحدةً، تثير غضب القادة الإسرائيليين، وفق ما تحفظ ذاكرتي الشخصية، وذاكرة مواقع الإنترنت، بما فيها "جوجل" و"ياهو".
أتحدث، هنا، عن الكلام المجرد، عن التصريحات والخطابات فحسب، لا عن الفعل المضاد، أو المقاوم عسكرياً للسياسة الإسرائيلية، وقد بات من غير المتوقع أن يُقدم عليه أحد من كبار قادة التنظيم الذي أطلق الرصاصة الأولى على إسرائيل، وكذا من قادة بقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، سواء بسواء.
في المقابل، لا يكاد يمر شهر، أو حتى أسبوع، من دون أن يقول أبو مازن ما يستفز شرائح وفئات واسعة من شعبه، إنْ في ما يتعلق بحق العودة الذي طالما شكل مرتعاً لتنازلات لفظية رسمية، تحاول طمأنة إسرائيل إلى انخفاض سقف الطموحات الفلسطينية، عشية كل جولة مفاوضات، أو في سواه من حقوق الشعب الفلسطيني، لا سيما حق مقاومة الاحتلال.
وحتى حين يغضب الإسرائيليون، أحياناً، من الرئيس عباس، فإنهم يغضبون، لأنه لم يقم بما يكفي ليردع فلسطينيين آخرين عن المقاومة، أو لأنهم يودون ابتزازه، ليفعل المزيد من أجل نيل رضاهم.
وبعيداً عن لغة التخوين أو الاتهام، فإن ذلك ليس مستغرباً، في معناه السياسي البحت، من قائد وثق به الأميركيون، وفرضوا على الرئيس الراحل، ياسر عرفات، أن يكلفه بتشكيل الحكومة، ويتنازل له عن صلاحيات واسعة، ثم صار، في غضون سنوات قليلة، مرشح واشنطن المفضل لتولي رئاسة السلطة الفلسطينية، باعتباره رجل سلام، يختلف عن سلفه الذي يقال إن إصراره على التمسك بخيار البندقية، إلى جانب غصن الزيتون، وإنْ بصورة غير معلنة رسمياً، قد تسبب له في النهاية التراجيدية التي انتهى إليها.
تشن إسرائيل، الآن، حرباً شعواء على غزة، فيتحدث أبو مازن بلغة مبعوث سلام أجنبي، ويدعو الإسرائيليين إلى مراجعة مواقفهم، حتى تتحقق رؤية الدولتين، وهو الذي كان، منذ أسابيع قليلة، قد أثار غضب غالبية الفلسطينيين، لاسيما في الضفة الغربية وقطاع غزة، بسبب التباين بين رد فعله على اختفاء المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة في الخليل، وموقفه من اختطاف وتعذيب وحرق الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير. هناك، استنكر، وتوعد الفاعلين، وتمسك بمواصلة التنسيق الأمني مع إسرائيل. وهنا، اكتفى بأن دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لاستنكار الحادثة، ثم تجاهل الغضب الذي اجتاح الشارع الفلسطيني، وغض بصره عن المواجهات التي اندلعت بين أهل القدس وقوات الاحتلال، كما لم يلتفت إلى كل سهام النقد التي أطلقها نحوه ألوف الفلسطينيين في المظاهرات، وعلى صفحات الصحف ومواقع الإنترنت.
هو رجل منسجم مع نفسه، دونما شك، ولا يفعل غير الذي يتسق وبرنامجه، ورؤيته لحل القضية الفلسطينية، سلماً، وعبر المفاوضات، والمفاوضات، ثم المفاوضات، وطبعاً مع نفي كل الخيارات الأخرى، واستبعادها علناً، وإلى الأبد.
لكن مشكلة عباس أن الإسرائيليين، ومعهم الأميركيون، خذلوه، وأجهضوا رؤيته، ولم يقدموا له شيئاً سوى الذي قدموه لعرفات، قبل أن يحاصروه حتى الموت. إنهم يتذرعون، الآن، بحكومة الوحدة الفلسطينية التي تشكلت بتوافق حركتي فتح وحماس، كي يتملصوا من "مأزق السلام"، بعدما تذرعوا، سنوات، بالانقسام الفلسطيني، وبقصور ولاية عباس، عن حكم غزة، ليقولوا إنه "غير ذي صلة"، ويواصلوا سياسة الاستيطان والتهويد والقتل والاعتقالات المنفلتة من كل عقال.
مع ذلك، لا أحد يتوقع، أو يطلب، من الرئيس الفلسطيني إعلان الحرب على إسرائيل، رداً على ما ترتكبه من جرائم في غزة، ولعل أقصى ما يمكن للفلسطينيين أن يترجوه، في ظروفهم القاسية، هو حسم أمر الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية التي يمكن عبرها اقتياد القادة الإسرائيليين إلى المحاكم الدولية. أما إن سمح الفلسطينيون لخيالهم بأن يشطح قليلاً، أو كثيراً، فلن يحلموا بأكثر من رؤية أبو مازن، وقد حط في غزة، على نحو مفاجئ، وظهر بين البيوت المدمرة، ووسط العائلات الثكلى، ليعلن من هناك، أنه، وقد بلغ الثمانين من عمره، أو كاد، لن يقبل بخاتمة لحياته السياسية، سوى هذه، أي الوقوف مع أبناء شعبه، في مواجهة آلة الموت والدمار، شاء من شاء، وأبى من أبى.
أليس هذا تماماً، ما كان سيفعله زعيمهم التاريخي الراحل أبو عمار، لو أنه كان اليوم حياً؟