أبو ذر الذي لا زال يعيش وحده (2-2)

15 أكتوبر 2018
+ الخط -
أياً كانت ملابسات اختيار أبي ذر الغفاري لمنفاه الجديد في ضاحية الربذة، فإن خروجه من المدينة هذه المرة لم يكن خروجاً سهلاً، بل كان حدثاً مثيراً للاهتمام، ومعبراً عن حالة متنامية من السخط داخل مجتمع المدينة، حيث خرج في وداعه علي بن أبي طالب وابناه الحسن والحسين وعمار بن ياسر وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم، وحين حاول مروان بن الحكم التحرش بركب المودعين، اصطدم به علي رضي الله عنه بشكل أغضب عثمان حين بلغه فقال غاضباً: "إنه يعيبني ويظاهر من يعيبني"، ليذهب إليه علي ويقول له: "ما أردت بتشييع أبي ذر إلا الله"، ورغم أن الصحابيين الجليلين تصالحا بعد ذلك الخلاف، إلا أن ما جرى أثر في علاقتهما ببعضهما بعض الشيئ، لكنه على أي حال لم يغير في مصير أبي ذر الذي ظل منفياً في الربذة، التي بنى فيها مسجداً وعاش فيها عامين، من سنة 30 هجرية إلى 32 هجرية، ووافته المنية فيها، لينشغل الكثيرون بعد ذلك بالحديث عن مصداق النبوءة التي نسبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام: "يرحم الله أبا ذر، يعيش وحده ويموت وحده ويُبعث وحده"، دون أن ينشغلوا بنفس القدر بما الذي جعل أبا ذر أصلاً يعيش وحده ويموت وحده.

ومنذ تلك اللحظة التي مات فيها أبو ذر وحيداً بعد أن دفع ثمن التزامه بمبادئه، تحولت سيرة أبي ذر الغفاري إلى ملف ملغوم يحاول البعض تفجيره في وجه السلطات الحاكمة حين يزيد طغيانها واستبداد مترفيها، لترد السلطات عبر مشايخها ومؤسساتها الدينية الرسمية باستهداف شخص أبي ذر ومهاجمة أفكاره ووصفها بالتطرف والخروج على إجماع المسلمين، حدث ذلك على سبيل المثال لا الحصر حين تم استدعاء شخص أبي ذر الغفاري وسيرته لمقاومة المد اليساري الذي ساد مصر والعالم العربي في الأربعينات، وقد كان من أبرز هؤلاء ولا تتعجب مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها حسن البنا، الذي كتب مقدمة لكتاب الأديب عبد الحميد جودة السحار (أبو ذر الغفاري) الذي صدر في يوليو سنة 1943، وكان ثاني كتاب يصدره السحار، بعد كتاب عن (أحمس بطل الاستقلال)، وقبل كتاب عن (بلال مؤذن الرسول)، حيث أشاد حسن البنا بما رواه السحار عن سيرة أبي ذر الصاحب الأمين لرسول الله، لكنه أشاد أكثر بالبحث الكبير الذي كتبه السحار عن (الاشتراكية في الإسلام) والذي صدّر به كتابه، ليصفه البنا بأنه "بحث علمي دقيق في الاشتراكية الإسلامية"، مؤكداً أن أبرز الأفكار الاشتراكية موجود في الإسلام الذي مع أنه لا يحارب الثروات العامة أو الخاصة، لكنه "يحارب تجرد بعض الناس من الثروة على حساب تضخمها في ناحية أخرى".



في مقدمة كتابه يستشهد السحار بأحد أبيات قصيدة (ولِد الهدى) لأمير الشعراء وصديق الأمراء أحمد شوقي، حين قال في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: "الاشتراكيون أنت إمامهم.. لولا دعاوى القوم والغلواء"، وهي القصيدة التي خلدتها أم كلثوم حين غنتها في أواخر الأربعينات، وتسببت لها في خلاف نادر مع الملك فاروق الذي كانت تحرص على مدحه في تفاريدها، وتقحم اسمه في بعض أغانيها، حيث زار مندوب من القصر الملكي ـ طبقاً لما يرويه ملحن الأغنية الموسيقار رياض السنباطي ـ استديو الإذاعة الذي كانت أم كلثوم تسجل فيه الأغنية، وطلب منها حذف البيت الذي يشير إلى الاشتراكية، لكن أم كلثوم رفضت ذلك، وهو ما لا يمكن تصوره، فضلاً عن أن رواية أخرى تصور ما حدث بشكل فيه بطولية أكثر، حيث تزعم أن مندوب الملك صعد إلى أم كلثوم على المسرح وهي تغني القصيدة، وطلب منها حذف البيت، لكنها رفضت، وحتى يتم التحقق بشكل قاطع من صدقية أي من الروايتين، يظل المؤكد أن القصر الملكي لم يكن سعيداً بانتشار الحديث عن (اشتراكية الإسلام)، ولو جاء من باب مقاومة المد اليساري الذي زادته الأزمات الاجتماعية قوة، بالقول إن كل ما قدمته الاشتراكية من أفكار هو موجود في الإسلام، وهو ما دفع لجنة الفتاوى في الأزهر في عهد الملك فاروق إلى الطعن بشكل مهذب في أبي ذر الغفاري، حيث اتهمته في أحد فتاويها بالخروج على إجماع المسلمين.

في السياق نفسه، قام الكاتب محب الدين الخطيب رئيس تحرير مجلة (الأزهر) في عهد الملك فاروق، بالدفاع عن عثمان في مواجهة أبي ذر، وذلك ضمن تعليقاته على هوامش كتاب (العواصم من القواصم) لأبي بكر بن العربي الذي قام الخطيب بتحقيقه، وهو ما كان قد سبقه إليه الإمام القرطبي في تفسيره حين اعتبر أن أبا ذر انفرد لوحده بقوله في تحريم كنز الأموال، معتبراً أن ذلك رأي لا يلزم المسلمين باتباعه، ومؤكداً أن آية تحريم الكنز نزلت في وقت فقر المسلمين، ولا يجب العمل بها بعد غناهم، ومع أن الهجمة المضادة التي قادها الأزهر على استدعاء أبي ذر الغفاري وأفكاره قد آتت ثمارها سريعاً، إلا أن شخص أبي ذر وأفكاره استدعيا من جديد للتخديم على التوجهات الاشتراكية للدولة في الستينات، وهي توجهات ساندها الأزهر ـ أيضاً ـ في مجلته حين رأسها الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات. (انظر على سبيل المثال لا الحصر أحد إعلانات مجلة الأزهر لعددها الصادر في شهر فبراير 1966).



بالتالي، لم يكن غريباً أن تشهد فترة حكم عبد الناصر استدعاءاً مكثفاً لأغنية أحمد شوقي وأم كلثوم التي تم تسجيلها من جديد في استديوهات الإذاعة عام 1955، وتحولت إلى أبرز الأغاني الدينية المعتمدة في الحفلات والمناسبات الدينية، ليتم بعدها أيضاً استدعاء كتاب عبد الحميد جودة السحار، الذي لم يحتفظ باسم كتابه القديم، بل قام بتغييره ليحمل عنواناً أكثر مناسبة للمرحلة، هو (أبو ذر الغفاري الاشتراكي الزاهد)، لتقوم سلسلة كتاب الهلال الحكومية بطبعه وتوفيره للمتعطشين إلى الاشتراكية، وحين تخلت الدولة بعدها بسنوات عن الاشتراكية ودخلت عهد الانفتاح الرأسمالي، تغير عنوان كتاب السحار من جديد، وحذفت من طبعاته ـ التي أصدرتها مكتبة مصر التابعة لآل السحار ـ عبارة (الاشتراكي الزاهد) وظلت مقدمة حسن البنا في بدايته، دون أي تعريف به، تحسباً للظروف، أما أبو ذر الغفاري نفسه فقد أعادته الدولة إلى دولابها الفكري، حتى يتم استدعاؤه مجدداً حين تقتضي الظروف الوطنية، وتعود أفكاره للتعرض إلى انتقاد من "وعاظ السلاطين" على حد تعبير الدكتور علي الوردي، والذين لا يجدون هدفاً أسمى من تثبيت عروش الحكام باسم الدين.

في المقابل، كانت هناك قراءات نقدية لأفكار أبي ذر، تنطلق من رؤية علمية بعيدة عن الصراع السياسي، من أشهرها رأي المفكر الدكتور أحمد أمين في كتابه المهم (فجر الإسلام) والذي رأى فيه أن أبا ذر قد تأثر بآراء مزدك فيلسوف فارس، بعد انفتاح الدولة الإسلامية على أفكار الفرس وفلسفاتهم عقب فتح فارس، لكن الدكتور ضياء الدين الريس رد على ذلك الرأي باستفاضة في كتابه (النظريات السياسية الإسلامية) مؤكداً أن آراء أبي ذر كانت نابعة من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي انحازت للفقراء والمستضعفين في الأرض.

أما ما قاله أحمد أمين في (فجر الإسلام) عن اعتقاده بأن اليهودي اليمني عبد الله بن سبأ، الذي يقول إنه دخل الإسلام تقية ونفاقاً، هو الذي قام بتحريك أبي ذر وتحريضه على عثمان، فقد رد عليه الدكتور طه حسين باستفاضة في الجزء الثاني من (الفتنة الكبرى)، معتبراً أن عبد الله بن سبأ ليس إلا وهماً من الأوهام التي اخترعها بعض المؤرخين المسلمين "لحاجة في أنفسهم"، لأن المسلمين في عصر عثمان الذين تأثروا بآراء أبي ذر، لم يكونوا من الوهن بحيث يعبث بعقولهم وآرائهم أحد، فما بالك لو كان يهودياً حديث الإسلام، وللتشكيك في وجود ابن سبأ، يتساءل طه حسين لماذا لم يقم ولاة عثمان بالقبض على ابن سبأ هذا، خاصة وقد كانوا مهرة في تتبع المعارضين، مضيفاً أن أبا ذر وهو من هو في علمه وفقهه، لم يكن بحاجة إلى حديث عهد بالإسلام ليعلمه أن للفقراء على الأغنياء حقوقاً.

يتفق المفكر العراقي الدكتور علي الوردي مع طه حسين في آرائه، ملاحظاً في كتابه الممتع (وعّاظ السلاطين) أن المؤرخين لم يأتوا بأي أوصاف مادية واضحة لشخص ابن سبأ وشخصيته، معتقداً أن أغنياء ذلك العصر هم الذين اخترعوا شخصية ابن سبأ، ليعزوا الانتفاضة الاجتماعية التي حدثت إلى مؤثرات أجنبية كما هي عادتهم دائماً طوال التاريخ، لاحظ أن تعبير (الأجندات الخارجية) لم يكن قد ظهر بنصه لكن معناه كان مطروحاً على الدوام وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ويقول علي الوردي إن وجود ابن سبأ يعتمد في أساسه على رواية يتيمة ذكرها الطبري عن سيف ابن عمر، نقلها عنه الكثيرون متناسين أن للطبري روايات كثيرة مردودة، ومع ذلك فقد استهوتهم تلك الرواية وقاموا بتحميل ابن سبأ جميع الأوزار التي حدثت في ذلك العصر، فاستغله السنة ليجعلوه سبب تقاتل الصحابة فيريحوا أفئدتهم التي يزعجها تذكر أن الصحابة في النهاية كانوا بشراً يصيبون ويخطئون، ويؤخذ من كلامهم ويرد، كما استغله كثير من الشيعة أيضاً ليذموا غلوّه المزعوم في حب علي بن أبي طالب، والذي وصل إلى حد التأليه فينفوا عن أنفسهم الغلو.

في كتابه (الفتنة) يؤكد المفكر التونسي الدكتور هشام جعيط على أن الذين أرادوا أن يجعلوا من أبي ذر أباً للاشتراكية الإسلامية، نسوا أن أبا ذر "لم يقم في ظروف عصره بغير التشديد على أخلاقيات القرآن"، وأنه كان ابناً لخلفية اجتماعية سادها الغليان الشديد لمجتمع ما بعد الفتح، خلفية تكديس الذهب والفضة، وهي نفس الخلفية التي جعلت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خازن بيت مال الكوفة يعارض عثمان علناً، حين احتج على تأخير والي الكوفة في إرجاع مال اقترضه من بيت المال، وحين نصر عثمان الوالي على ابن مسعود، استقال الصحابي الجليل وتفرغ لتعليم الفقه والحديث، لكنه لم يتوقف عن معارضة عثمان الذي ما كان منه إلا أن استدعاه إلى المدينة وعاقبه جسدياً ومنعه من مغادرة المدينة ومن تقاضي عطائه بل وأوصى بمنع إقامة الصلاة على جثمانه بعد موته، وهو ما حدث أيضاً لعمار بن ياسر رضي الله عنه حين تعرض للعقوبة الجسدية، بعد أن اعترض على حصول أهل عثمان على مجوهرات وحلي من بيت المال، وكما يروي البلاذري في (أنساب الأشراف) فقد احتج الصحابة وعدد من أمهات المؤمنين على تعزير عمار وضربه، لكن احتجاجهم لم يكن كافياً لوقف سجنه، بقدر كونه حليفاً لبني مخزوم الذين تدخلوا لإطلاقه من السجن، لتتم معالجته من آثار الضرب المبرح الذي تعرض له، ويتم إرساله إلى مصر، فيكون واحداً من الذين ساهموا في تأليب مشاعر بعض أهلها على عثمان، بشكل انتهى إلى قتله بعد فترة.

بالطبع، تجد كل هذه الروايات معارضة شرسة من البعض، الذين يجدون صعوبة في تقبل وقوع هذه الخلافات الحادة في مجتمع يسوده ويحكمه صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وهنا أحيل إلى ما كتبه الدكتور محمد عمارة الذي رأى أن أسلم طريقة لفهم هذه الأحداث العصيبة، هي التي اتبعها المؤرخ المسعودي، والتي تصور جميع الأحداث التي وقعت بين أبي ذر وعثمان ومعاوية وعمار وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم "باعتبارها أموراً طبيعية أثمرتها تطورات شهدتها حياة المجتمع يومئذ، فهو مجتمع وهم بشر، والأليق بهم النظر إليهم وإلى خلافاتهم وصراعاتهم في هذا الإطار وبهذا المنظار".

بالطبع لن يقنع ذلك المنهج كثيراً من الذين يظنون أن نفي وقوع تلك الخلافات كلية أسلم وأحوط، ويعتقدون أن إخفاءها ودفنها في بطون كتب التاريخ أفضل وأجمل، تماماً كما ظن الذين من قبلهم أن تجاهل أفكار أبي ذر الغفاري سينهيها إلى الأبد، وربما أحب بعضهم فقط أن يبقى منه الجانب الدرامي المتعلق بانعزاله عن المجتمع، والذي يصورونه أنه كان اعتزالاً اختيارياً لم يجبره عليه أحد، لكن ذلك في الوقت نفسه لم يمنع أفكار أبي ذر من التأثير في كثيرين ممن يرفضون استبداد المترفين بمقدرات المجتمع، وتسامح شيوخ السلطان مع غياب العدالة الاجتماعية، ليخرجوا تلك الأفكار من سياق الصراع السياسي الذي يجتزئ الآيات والأحاديث ويوظفها لخدمة هذا الرأي أو للرد على تلك الفكرة، ولتظل أفكار أبي ذر حاضرة في وجدان الباحثين عن الحرية والعدالة وعلى رأسها صيحته الخالدة "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"، وهي صيحة ستظل حاضرة ومشروعة، طالما ظلت أوطاننا بعيدة عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.